في ندوة ناقشت «وسائط التواصل بين حرية التعبير والتفاهة»: اليوم نحن أمام ترميز الكائنات التافهة في الإعلام العمومي

من يعطي شرعية للأسماء التافهة والعابرة أخطر من مقدم المحتوى التافه

التفاهة سينمائيا تبدأ من شباك التذاكر، وتجد من يدعمها من النقاد أيضا

 

نظم نادي الصحافة بالمغرب والمركز المغاربي للدراسات والأبحاث، بشراكة مع المعهد العالي للإعلام والاتصال يوم الخميس 10 نونبر الجاري، بمقر المعهد بالرباط، ندوة علمية حول «وسائط الإعلام بين حرية التعبير والتفاهة».
اللقاءـ الذي حضره كتاب وإعلاميون وأكاديميون وسينمائيون، وسيره الإعلامي ومدير المركز المغاربي للدراسات والأبحاث في الإعلام والاتصال، جمال المحافظ ، حاول مقاربة هذا الموضوع، نظرا لما له من راهنية تنسحب على تردي الذوق العام وتعطيل الفكر مقابل سيادة التفاهة والتافهين، على حساب الفكر العقلاني والحق في المعلومة الصحيحة وضرب أسس المجتمع القيمية والأخلاقية والتربوية.
الندوة جاءت في سياق إطلاق عريضة على شبكة الأنترنت للتوقيع تحت عنوان: « توقفوا عن تحويل التفاهات إلى قدوة ونجوم» التي بادرت بها الإعلامية المغربية « عزيزة حلاق، وشارك فيها الأساتذة: زهور كرام، عبد العزيز كوكاس، عز العرب العلوي، وأستاذ الإعلام ومنسق ماستر التواصل السياسي بالمعهد العالي للإعلام والاتصال محمد عبد الوهاب العلالي والفاعلة الجمعوية فدوى ماروب.

 

اختارت الأكاديمية ومدير ومجلة «روابط رقمية»زهور كرام مقاربة صناعة محتوى «التفاهة»، انطلاقا من تحديد طريقة التفكير في هذا المحتوى، تفكير لا يُقصد به طرق إنتاج المعنى أو الفن، بل التفكير في الفكر كموضوع، أي كيف يمكن أن ينتج الفهم مما يعتبر اليوم تفاهة؟ خاصة أن القاعدة الساحقة اليوم لا تعتبره كذلك، ما يجعلنا في مواجهة لأننا ننطلق في حكمنا هذا من مرجعيات تناقض ما ألفناه في تعاقدنا المجتمعي وخلفيتنا الثقافية ومنظومتنا القيمية ليبقى السؤال هو: كيف نفكر؟ لأن سؤال الفكر اليوم مهم، ولأن ما يحدث اليوم يمكن ان يعمل على تبخيس الفكر وهذا في حد ذاته أخطر أشكال التفاهة، أي أن يغيب السؤال عما يحدث، ويغيب معه التفكير حول إنتاج معنى مما يحدث أمامنا، ويتم قبول ما يحدث دون طرح أسئلة حوله.
كرام أشارت إلى اعتبارات أخرى تدفعنا إلى التفكير، ومنها أن الانتقالات التاريخية تتم بموجب تحول الوسائط، وبالتالي فإنها تغيرنا وتغير نظرتنا وإدراكنا للأشياء، خاصة عميلة إنتاج الفهم. فالتقنية الرقمية اليوم ليست وسائط اتصالية وتواصلية فقط، لكنها أيضا وسائط إدراكية بالمفهوم الفلسفي رغم عامل السرعة الذي يميزها ، والذي يعتبر المكون الجوهري في هذا العصر ما يجعلنا في حالة الأمية الرقمية نتغير دون أن ندرك هذا التغيير أحيانا، وهذا التغيير هو ما يجعل الكائن الرقمي الأمي ينتج التفاهة التي لا تظهر بهذه الحدة والخطورة إلا لدى المثقف والباحث وكل ذي خلفية ثقافية معرفية، ممن يدركون أن هذه التفاهة تضرب القيم المؤسسة للمجتمعات وتهدد الفكر لأن الفكر اليوم ، كما تؤكد كرام، مهدد بالابتذال وبالافلاس لإن القاعدة التي تمنح اليوم السلطة للتافهين تتسع يوما بعد يوم، ما يجعلنا أمام ترميز الكائنات التافهة التي وجدت لها «تابعين»، خاصة في وقت أصبح الإعلام العمومي، وتحديدا السمعي البصري منه، يعول عليها ويعتبرها نماذج ومرجعيات، رغم أنها عصفت بعدد من المكتسبات الحقوقية للمرأة التي ناضلت من أجلها الإطارات الحقوقية والنسائية لعقود، وهو ما يجعل الحاجة ماسة اليوم إلى الخوض في الموضوع من طرف الإعلام، وإلى إنسانيات رقمية تحلل وتفكك هذه الظواهر.
وخلصت كرام الى استحالة التفكير اليوم في أي ظاهرة دون اعتماد العامل الرقمي لأن التاسيس لتعاقد مجتمعي جديد بالمغرب لا بد أن يدخل هذا العامل في الحسبان، وإلا فإن العصر الرقمي سيتجاوزنا.
إن مقاربة موضوع وسائط التواصل الاجتماعي والعالم الافتراضي، في عهد انتهت فيه اليقينيات، وتسارعت فيه التغيرات، تجعل الفكر كما عبر عن ذلك الإعلامي والكاتب عبد العزيز كوكاس، أشبه بمن يلاحق الريح لأن الفكر يحتاج إلى زمن لينصت الى الظواهر ويفككها، وهو ما يصعب اليوم في عصر التحولات المتسارعة. وهو ما جعله يتساءل عن وظيفة المفكر اليوم: هل هي محاكمة وسائل التواصل الاجتماعي وشيطنتها وإطلاق الأحكام على المستخدمين الذين يوجد ضمنهم المثقف والمفكر والناقد؟
إن الأمر بالنسبة لكوكاس يتجاوز تحديد المستخدمين ومحتوى التفاهة، إلى الوقوف مليا عند المرحلة الفاصلة التي تجتازها الإنسانية اليوم، لأننا على عتبة انتقال كبير في تاريخ الإنسانية انطلق من الانسان العالِم إلى الانسان المتصل connecté) ) وهذا الانتقال الطبيعي يفرض علينا طرح الأسئلة التي تساعدنا على فهم ما يحدث وتجاوزه بأقل الأضرار ، أي كيف يمكن استخدام الإيجابيات دون السلبيات لكن دون فرض رقابة؟ مؤكدا أن القوانين وحدها ليست كافية للحد من تسيد التفاهة، التي تبقى، كنظام، سابقة على وسائط التواصل الاجتماعي. فالتفاهة كانت دائما موجودة في السياسة والثقافة والإعلام وفي كل فنون الاإداع، لكن ما حدث اليوم هو أن وسائل التواصل سرَّعت ووسعت مساحة انتشارها في غياب نماذج إيجابية للنجاح يمكن الترويج لها، وهو الفخ الذي سقطت فيه، للأسف، وسائل الإعلام خاصة الإعلام الإلكتروني لأنه يستقي مواده منها، مؤكدا أن من يعطي شرعية للأسماء التافهة والعابرة أخطر من مقدم المحتوى التافه.
إن صناعة التفاهة في مجتمعنا اليوم لا تقتصر على مجال إبداعي دون آخر، لكنها تطرح سؤال الحرية بشكل أكبر في مجال السينما والفنون التي تحتاج جرعة حرية زائدة تضمن لها حرية التعبير وتمرير الأفكار والخطابات.
هكذا تحدث المخرج والسيناريست المغربي عز العرب العلوي، وهو يقارب إنتاج التفاهة سينمائيا، متسائلا عن معايير الحكم على مضمون سينمائي بـ «التافه»، ومن أي زاوية هل من زاوية التسطيح في تناول الموضوع، أم من خلال السيناريو ، معتبرا أن جميع المتدخلين في صناعة المحتوى السينمائي مدعوون لتحديد معنى «التفاهة»: مخرجين، مؤلفين، نقاد، كتاب سيناريو.
العلوي ربط هذه التحولات على مستوى القيمة الفنية للفيلم السينمائي ببداية السينما المغربية التي ظلت محافظة على بعدها الفني والجمالي في ما يعرف ب»سينما النخبة» التي كان المخرج يثقلها بالحمولات الإيديولوجية مما يصعب على غير أهل الاختصاص والنقاد فهمها. لكن بداية التحول الى ما يسمى اليوم بالتفاهة بدأت بوادره أكثر بعد مرحلة ما بعد كورونا، حيث تم عرض العديد من الافلام التي نحجت ولاقت إقبالا كبيرا وحققت نسبة كبيرة على مستوى شباك التذاكر كفيلمي «الإخوان» و»30 مليون»؟ متسائلا عن المعايير التي يمكن اعتمادها لإدماجهما ضمن سينما التفاهة ومن أي منظور سيتم ذلك.
لكن الغريب، كما يقول عز العرب العلوي، أن بعض النقاد السينمائيين المغاربة يدافعون اليوم عن هذا النوع من الأفلام بدعوى أن التأسيس لسينما ذات استمرارية في المغرب يحتاج إلى تركم كمي بغض النظر عن القيمة الفنية والفكرية لما يُعرَض، في انتظار تحقيق الكيف، وهو ما يتطلب الحاجة الى وضع ضوابط حتى لا تتسيد التفاهة سينمائيا عبر مبرر الكم.
إن ما يدفع الى اعتماد الكم على حساب الجودة والقيمة الفنية، يعود الى محدودية صناديق الدعم، حسب العلوي، محدودية جعلت العديد من المخرجين يتجهون الى الإنتاج الذاتي الذي لا يفكر غالبا في سينما المؤلف والموقف، بل بمنطق المردودية المادية وشباك التذاكر، وهنا يبدأ تحكم الرأسمال في الإبداع السينمائي، والرضوخ لرغبة المستشهرين والممولين خاصة في مجال الإعلام العمومي البصري، ويزداد الامر استفحالا عندما يتسيد مخرجون معينون ليقصوا غيرهم من فرص العرض بدعوى أن أفلامهم تحقق عائدات مادية أكبر.


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 15/11/2022