قال: «لا أحد ينتظرني» أصدقاء دشين جاؤوا ليزرعوا غيوما كثيرة في قلبه، ونجوما أكثر في كفيه

ضِمن برنامجه «أصدقاء البيت» الذي يُخصص للاحتفاء بالكُتّاب والمبدعين المغاربة، نظم بيت الشعر في المغرب، بتعاون مع المسرح الوطني محمد الخامس، أمسية للاحتفاء بالكاتب عبد النبي دشين، وبمنجزه القصصي الأخير «لا أحد ينتظرني»، وذلك يوم الأربعاء 21 ماي 2025 بمشاركة الشاعر حسن نجمي، الناقد محمد معتصم، القاص أنيس الرافعي، القاص سعيد منتسب، فيما أدار الأمسية الاحتفائية الروائي أحمد لكبيري.

 

«لم ينتظر أحدا
ولم يشعر بنقص في الوجود
أمامه نهر رمادي كمعطفه
ونور الشمس يملأ قلبه بالصحو
والأشجار عالية
ولم يشعر بنقص في المكان..» (محمود درويش)

لم ينتظرْ أحدا، لكنهم كانوا هناك.. جاؤوا وقد تأبطوا حبا للرجل ولأثر الضوء الذي يسّاقطُ من سماء قصصه، جاؤوا ليزرعوا غيوما كثيرة في قلبه، ونجوما أكثر في كفيه تضيء كلما حك جلدَ الشمس.
كانوا هناك.. جمعُهم بيتٌ من شعر، وشجرة وارفة الظلال تسمى المحبة كي يقولوا له دفعة واحدة: لا «أحد» ينتظرك، لكن، «الجميع» ينتظرك.
هل جرّبْتَ مذاق الألم إلى الحد الذي يجعلك تقول: «لا أحد ينتظرني»؟
هو سؤال مضمَر ومُمِض في شهادة القاص عبد النبي دشين حين يقول: «في مرآة المرض رأيت كم هو هش هذا الجسد، كم هو مسرف في خيانته، وفي الوقت نفسه كم هو مشته للنجاة. كنت أكتب في الليالي الطويلة كما لو أنني أضمد جرحا لا يُرى، أدون الكلمات لتخفف وطأة الألم ولأقنع نفسي أن شيئا ما لا يزال ممكنا»، ولأن «بيوت الحكاية تبنى من طين الخسارة.»، هو الذي ظل طيلة مساره، يكتب «ليس من دهشة ولا من فرح فائض، بل من حاجة ملحة لمقاومة الانطفاء…بالكلمات»، كلمات يكتبها «كما يتنفس الغريق، وكما يحلم الأعمى ليتوازن على هذا الحبل المشدود بين العالم كما هو، والعالم كما يريده أن يكون»، باحثا عن نصه الكبير «الحياة» حتى يعيد كتابتها على طريقته، وكما يحب أن يراها بين الشقوق وفي لحظات التردد، وفي النظرات المرتبكة وفي ارتباك الحواس.
صاحب «فكرة النهر، حسن نجمي، وهو يقرأ قصص المجموعة «على انفراد»، لمس – كما جاء في ورقته – تحولا جوهريا في الكتابة عند القاص عبد النبي دشين، يتعلق الأمر بـ»نصوص تلتقط انهيارات باطنية شخصية ذاتية وفردية، لكنها تعبر عن انهيارات أشمل وأعم»، ما يضع قارئ هذه المجموعة، حسب نجمي، بعيدا عن» التجارب القصصية والسردية لجيل المؤسسين الذين اشتغلوا ببناء هوية جماعية وتحديد معالمها الوطنية» ويجعله أمام قصص «تلتقط معالم عالم ينهار ويتشظى، وينعكس على الذات المتكلمة في النص».
وأضاف نجمي أن دشين باقترابه من «عوالمنا الهلامية الغامضة الملتبسة، القاسية، المنفلتة، أصبح يعرف، عبر مجموعته الجديدة، كيف يعثر على كلمته الدقيقة التي تعبر عن كل شيء».. الكلمة التي يخرجها «ليس من رأسه وإنما من قلبه، من جرحه وحزنه أيضا، ومن عدم توافقه مع واقعه، مع واقعنا هذا.»، حيث نلفي في نصوصه إمساكا بواقع حلمي «تصادفنا فيه مظاهر لواقع نعرفه. وفيما نحن نظن أننا نعرفه، نعثر على تجليات لواقع نجهله».
وخلص نجمي إلى أن قصص المجموعة» وإن كانت أقاصيص قصيرة جدا، لكنها تشتغل بروح النصوص الكبرى على المأساتي الثقافي والاجتماعي والسياسي ببعديه الزمني والفضائي، وعلى الفرد والإنسان المجرد في توتراته ومعضلاته المجهرية..» اشتغال «بروح فلسفية وجودية ظاهراتية تلقي بظلالها على الشخصيات والأحداث..»
بين الداخل الجواني والخارج الجمعي، بين الذات وآخَرِها، يعيش الإنسان الدائري غربته الوجودية ممزقا بين عزلته المنتجة والانصياع لعقلية القطيع، من هذه التقابلات اختار الناقد والمترجم محمد معتصم أن يفكك «قصص «لا أحد ينتظرني»، معتبرا أنها قصص «لا تحكي عن نفسها، إنها تحكي عن العالم الذي كتبت فيه بأسلوبها السردي وتخييلها الجمالي، ولغتها الحية المقتضبة والمكثفة». وأضاف معتصم أن القصص في هذه المجموعة «فيها طريقة سرد متماثلة تتكرر في جل النصوص، تكرار ينم عن خطة سردية معتمدة من قبله حاملة لقصدية محددة»، وهو ما يؤكد أن «للقاص وجهة نظر وتعريفا وتصورا لمعنى ولمفهوم القصة والكتابة.»
وتوقف معتصم عند ثنائية وصراع الأنا والآخر، معتبرا أن «كل ما تعبر عنه القصص في هذه المجموعة، هو محاولة اكتشاف الذات والانتباه الى الأنا الضائع في غمرة الأوهام، وقد أدى هذا الاكتشاف الى الانتباه الى الأشياء المحيطة بالإنسان، الأشياء التي هي جزء حي من تجربة الوجود الإنساني» . وعرج معتصم على مفهوم العودة الذي تحتفل به قصص «لا أحد ينتظرني» بما هي عودة إلى الرحم عبر «المسارب والممرات والطرق الضيقة المعتمة التي نبنيها لأنفسنا عبر أوهام الوحدة والأحزان واسوار الخوف».. «العودة التي تضع الذات أمام المرآة لترى حقيقتها، بعيدا عن الضجيج والقشور وكل المواضعات والأوهام التي يغلف بها الإنسان حقيقة وجوده».
وكما تخرج القصائد من رئة ثالثة، تخرج أعمال دشين القصصية، كما جاء في ورقة القاص والكاتب أنيس الرافعي، « تخرج تباعا من بين ثنايا طواياه ، مثلما تخرج الأغاني من أقدم آلة موسيقية هوائية في التاريخ : المحارة» .
«صانع الاختفاءات» ومروض «الحيوانات المتوهمة»، اعتبر أن المحتفى به «قاص حذق الأسلوب ، ماهر الصياغة ، قدير الصنعة ، يقدم نفسه، على امتداد كافة هاته الصروف والمحن، بوصفه الحارس الأمين لمستودع الذكريات القديمة على أطراف بحيرة الوجع. كما يقدم بطاقة هويته الأسلوبية، باعتباره مبدعا لطراز خاص من القص ، يمكن نعته ب «قصة الوسادة الهوائية الممتصة للصدمات» .
هذه الوسادة الممتصة للصدمات، يرْشحُ منها، حسب الرافعي، «حُزن أو ربما حَزَنٌ غير عرضي ولا عابر، محُوك داخل نسيج شفاف، رقت خيوطه الناظمة، حتى ظهر ما وراءه ، وتشعبت مادته وتكاثفت مشتقاته . وها هي ذي ألياف النسيجة، تنبسط على سطوح القصص تفاصيل ودقائق، ترشح مسامها – حد امتلاء وعاء النفس – بالوحدة والفراغ ، والصمت والذكرى، والفقد والأصداء ، والرحيل والغياب، والخيبة والانتظار والانكسار»، أوجاع تجعل قارئ دشين «أمام كتابة سردية نازفة من دون شكوى، كأنها جرح داخلي لامرئيّ وغير قابل للبُرء، وقدام عوالم حكائية داكنة ، شيمتها المناطق الظليلة للروح المنكوبة».
بدوره، توقف القاص والروائي سعيد منتسب عند تيمة الفراغ التي تكتظ بها قصص المجموعة، معتبرا أنه «لا يمكن النظر في قصص «لا أحد ينتظرني» للقاص عبد النبي دشين دون الاصطدام بمهيمنة «تنظيف الفراغ» التي تدل على توجه «مونوغرافي» واضح في الكتابة القصصية.»
إن «تنظيف الفراغ» في مجموعة «لا أحد ينتظرني»، يقول صاحب «قبو إدغار الان بو»، يقوم على مجموعة من الروابط التي تصل «السارد» بالمحكي، ملخصا هذه الروابط في:
رابط الذاكرة: الذاكرة المضلِّلة التي لا تعيد الحقيقة بل أثرَها المتآكل.
رابط المرآة: بأثرها المعكوس حيث المرآة لا تظهر بل تخفي.
رابط الرائحة: وعبره يستعمل القاص الذاكرة لاستدعاء الصور المتراكمة في الغياب.
رابط الجماليات: وفيه اختار دشين أن يلوذ ب»الزمن الخرافي»، بعجيبه وغريبه وأخلاقيته وثنائيته.
رابط السينما: تشغيل الظلال بالاستعانة بالترميز البصري.
رابط الأدب: حيث يجعل دشين القراءة فعلاً موازياً للكتابة.
وخلص منتسب الى أننا» نعيد اكتشاف الكتب والسينما في هذا العمل القصصي، كما نعيد اكتشاف إمكانات القصة، نظرا لأن الجمل والصور تشتغلان معا من أجل توليد المعنى، ومن أجل تنظيف الفراغ ومنحه لحما متحركا، وهو ما يمكن أن نسميه «التزمين الفائق للغياب» !


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 24/05/2025