نصوص تلبس العدم لتركب الوجود مقاربة لديوان «سدرة الهباء» لعبد العالي دمياني

أيها القارئ لديوان سدرة الهباء للشاعر المغربي عبد العالي دمياني، لا تنسَ التسلح بالفؤوس والمعاول لأن النصوص التي تنتشر بين ضفتي الأضمومة تربتها تحتاج إلى تقليب وإعادة تقليب لتخرج من جوفها المعاني المدسوسة بذكاء. لا تستغرب إن تعددت وانتشرت في الأفق بمجرد خروجها من تلك التربة الدسمة. فقط اختر لنفسك زاوية تناسب تفكيرك وتمكنك من النظر إلى الديوان بكامله. نصوصه مترابطة كسلسلة تتلاعب حلقاتها بالمعاني.
سدرة الهباء قد توحي بأفق المعاني، لكن سرعان ما تربكك الأسئلة الفلسفية الوجودية التي يطرحها الشاعر ويرسم من خلالها الفضاء العام لديوانه الشعري. التقليب في السرد يؤدي إلى الهباء، لتشظي المعاني التي تركب على العدم والعماء والنفي، وكل ما يشير إلى وجود ويكرس هوية متشظية.

« سدرة الهباء» عنوان يجنح نحو الغرابة، كما هو الحال مع باقي عناوين القصائد بشكل عام، لكن ليست الغرابة بمفهومها السلبي، بل بالمعنى الذي يجاور ويحاور الفضول، ويحرض على النبش من أجل الفهم وإدراك الغايات ومرامي النصوص. اخْتارها لغاية وقصد، لتشير إلى الاتجاه الذي يجب أن يسلكه القارئ في تعقبه للمعاني المستهدفة، والتي نصيغها بشكل يشي بما تنضح وتخفي. سيتم ترقيمها بشكل تصاعدي من1 إلى 31 ضمن الفقرات القادمة حسب ترتيبها داخل الديوان.
وقف ناظم الأضمومة الشعرية على ناصية الطريق، متسلحا بطاقة التأمل والحكمة، عازما على سلك الطريق الروحية باعتبارها غطسة في الذات. أخد ينظر إلى الأفق حيث سدرة البهاء1تعكس تشذر الحياة، ثم انطلق عازما إهمال الاهتمام بالأشياء السطحية والأخذ بالأسباب. تلك الوقفة التي كان ينظر من خلالها إلى الوجود وقد تلبسه العمى، لم تكن إلا نقطة عبور2فقط. بعد تفكير عميق، دون أن يضيع في غياهب عمقه حيث العدم والنفي والهباء. قرر ركوب آلة الزمن والسفرإلى الماضي ليستمتع بالتعبير الصادق وعمق العاطفة في أناشيد التروبادور الأخير. للأسف لم يجد إلا الهباء، وقبر كتب على شاهده: حامل الريشة يرجم العالم بصرخته3. الاسم المصلوب4 على الشاهد كان ينفي ذاته ويتلبس عماء الوجود. فالمغني قبل مماته كان يجلس خلف الجبل للتأمل، مثل شامان تخرمت روحه دون أن يكثرت لإرشاده أهل المدينة. قال الناظم لنفسه:حامل الريشة 5في زمننا أيضا لا شغل له إلا تنقيح الصمت وإسكات البراكين المستعرة في دواخله، وتلك سمة مميزة كوشم6على جبين اليتيم، يخلد الدم الصاخب الشاحب على عتبة الغياب، فمن يهتم لصرخة عابر7 في غياب وميض يصعد ما في القعر.سيظل أهل المدينة يتفرجون بلا هسهسة كصخرة 8حطها السيل من علٍ.اعتادوا لكتمان النبع9 وضع حصوة في الحلقوم، فلا ينفع الحذاء 10للهرب ولا لعبور الليل حتى العواء الأخير.
لؤلؤة في فم الريح 11كانت تدنو فتتدلى لتنير الطريق. من خلفها سمع الناظمبعيدا ينادي 12احمل وزرك وبادر بنخب دمك فالدغل يتدلى من سرة المجهول. ستصبح قربان 13 وحطاما 14 لذلك الوطن الصغير الذي أسلمته لعود ثقاب.. أيها المنادى في الأرخبيل 15 صباحك صباح أعمى 16 نفيره ضوء يصرخ في خلوة الجسد كرَجْعِ جُرْحٍ بعيد، أشعلته ملح الأشغال الشاقة. وأنت تستغرب من عمى17. أصاب كسيحا يطلب غناء موجة. وتظن نفسك سعلاة18 في غابة سوداء، أو ريحا تحكم الفراغ.
حين وصل إلى علم الشاعر مهندس الديوان أن التروبادور الأخير يسبح في المدينة 19 تفاجأ وتساءل: هل الكلمة المجنحة ستلعلع في مدار عريان؟ هل أعادته إلى المدينة شجرة المحال، فهي مثل النذر خبيرة في بعثرة الأوراق. هب إليه من جهة المجهول وصرخ في وجهه: لا تبح بسرك للريح20 ، فعصا الغريب21 مسلولة لتفتح لك بابا على البحر. لتؤاخي النوارس التي تحلق أسفل المدينة22 حيث الكلاب السائبة تنشد كورالا وحشيا. أيها التروبادور الأخير 23 اطو قلعتك مثل حقيبة ظهر واضرب في الفيافي. ولا تحسبن مكانك بالمدينة سدرة الهباء24 فما هو إلا ساحة الأمم المتحدة 25، حيث الوقت بأظلافه الكسيحة يعفس على الأنفاس، وفيها يوزع البهلول منشوراته السرية. بالدار البيضاء المومس والزومبي وجهان لامتداد سلطتها، وعنوانان مختلفان للاستغلال مقابل حفنة من لا شيء.الحاضرة التي كانت في يوم ما بيضاء نسيت أمواتها وتاه نهرها وسط هواتف الغلاكسي والحواسب الذكية والأشباح والحانات والخيبات، غدت ركحا للمشاهد التراجيدية، أما أناشيد الحب التي تعشقها، فظلت هناك في أحضان العصور الغابرة. عد إلى موطنك أيها التروبادور فهنا الحياة تتنفس الموت.
في مهب اللوعة والنسيان 26 نبع بعيد27 شرب منه الشاعر فعرف طريق الناي وأسماء الوردة على ألف وتر وبكاء. فيه الراقصات يصعدن الدرج 28وهن يجرين في غبش الفجر يجررن الليل من جذوره إلى الحديقة الخلفية لينشدن صلاة الغائب 29، التي توقظ لوعة الزوال والاضمحلال، وتعلم دباغة الوقت من صاغة الحنين. حيث ترقد الذكريات في مهب اللوعة والنسيان ببيت الأسلاف 30.البيت رمز شعائري31 لحياة فقدت ركائزها وأضحت في مهب الريح، من داخله تنسدل الكلمة لتلبس الفراغ، فلا شيء يمكنه أن يحل مكان لسان مقطوع، أو ريح أكلت نفسها ثم غارت في هوة بلا قاع، حيث يقبع مهندس الخيبات.
من خلال ما ذكر يتضح أن العناوين جمعت في قصائد تجلي نداء الروح، وتجمع بين الحكمة والبساطة، بتعبير صادق وعمق العاطفة. تفوح منها نفحات تعكس التعالق الحاصل بين الشعر والفلسفة، وتظهر الحمولة الثقيلة التي حُمّلت بها النصوص الشعرية. التي اختيرت بتفكير مسبق يبتعد عن النمطية والعشوائية، نظرا لطبيعة المواضيع التي انبرى الشاعر لكتابتها، والتي تعانق وتجاور محمولا فلسفيا وقلقا وجوديا. تيمتاها حبلى بالمواضيع التي تعكس اهتمام الشاعر عبد العالي دمياني بالشأن المحلي، وبالمدينة التي تؤثر وتتأثر بالحياة اليومية للسكان. وتحمل أصواتا متعددة، وخطابات تنفتح على تأويلات مختلفة مما يعطيها عمقًا وتعددية في المعنى. من أجل خلق روابط تواصليةتذيب تلك الفروق التي من شأنها قطع العلاقة بين الملقي والمتلقي، اعتمد الشاعر لغة بسيطة مباشرة، تكرس تواصلا مبنيا على الإصغاء للآخر والنبش في مسببات الألم في مختلف تجلياته.
الاعتماد على لغة جميلة مختارة بدقة تجنح للوضوح لم يكن اعتباطيا، بل لمد الجسور والسماح للدلالة الرمزية والصور الشعرية للتعبير من خلال رسم عالم خاص، يتشكل من معان تختلف بمجرد خروجها للضوء. صور تخرج من الذاكرة لتربط الماضي بالحاضر، وأخرى نتيجة لظروف محدودة في الزمكان، ترسم وتصقل على شكل صور فوتوغرافية لتنقل الخبر كما هو أو كما يراه الشاعر.
تتميز الصورة الشعرية في ديوان سدرة الهباء، بحملها للحالة الشعورية التي كان عليها الشاعر إبان اشتغاله بالنظم. وقد تعددت أنواعها داخل المنظومة مع التركيز على الصور الشعرية المركبة، التي حملها ما رصدته عيناه وما أُثيرت فيه من عواطف. على سبيل المثال لا الحصر يتضح في هذه الصورة: تبدو البيضاء هذا الصباح متورمة العينين/ سادرة في الرعاف / أحد ما /هشم أنفها بقبضة يد / تكنز عتمة العالم، ص53. صورة مركبة تعتمد على المجاز لتحقيق الجمالية وكذلك لتهييج خيال المتلقي. وعلى الدلالة الرمزية لبعض الكلمات المعبر كالأنف الذي يرمز إلى الوجه وبالتالي الشكل العام للمدينة، والرعاف الذي يرمز بدوه للدم والعنف وما يُعاش داخل البيضاء. ما قيل تكرسه الصورة التالية أيضا: أحد ما / في بار حقير يرتاده الحثالة / شاهرين عاهاتهم في وجه الملكوت / ثملين بأسلابهم الصغيرة / المنداحة، كالحباحب خلف شريط/ أغنياتهم/ المحشرج بالتعتعات.صور مشحونة بعاطفة وألم وشعور بالحسرة ينقلها إلى المتلقي عبر تجاربه الحسية والملاحظات التجريبية.
في القصائد التالية: نبع بعيد / الراقصات يصعدن الدرج / صلاة الغائب، اعتمد الشاعر على الصور القصصية التي تتخذ من البنية الدرامية وسيلة فنية عرض خلالها الشاعر المواقف التي عاشها أو تجري أمام عدساته.
بالإضافة إلى ذلك، نجد الصورة الوصفية التي استعملها الشاعر للوصف المباشر للمناظر الطبيعيةكالدار البيضاء والحياة اليومية وما رصدته عيناه من تفاصيل كالأشباح /الزومبي / الراقصات / فاصل إشهاري / غابة الاسمنت / ….
استعملعبد العالي دمياني في تلميعه للصور الشعرية التي تؤثث الديوان المحسنات البلاغية، كالتشبيه والجناس وترادف الكلمات المتشابهة، وعلى إيقاع داخلي يتحول إلى نبض يتسارع ويتباطأ حسب النفسية التي شهدت المخاض والولادة، ومدى تأثير الحدث المحكي عنه وقوة ارتباطه بالشاعر.الانزياحات والايحاءات التي اعتمد عليهما عبد العالي دمياني بشكل مكثف في تشكيل النصوص، أضافت بدورها إلى المحتوى الدّسَم ليغري بالمتابعة.
تضم المجموعة نصوصا تختلف من حيث المضمون والمتخيل الحكائي، الذي يأخذ إلى عمق الواقع، ينقله ويعيد كتابته بطريقة خاصة تجلي المستور، وتسهل اكتشاف المتواري بين السطور. عرضت حالات إنسانية في تجليات مختلفة، يتداخل فيها الزمان والمكان والذاكرة، وتتميز بقوة الملاحظة والدقة في وصف الظاهرة المتحدث عنها. تبرز الكيفية التي انهارت بها القيم في المجتمع المدني المعاصر، حيث يسود التفكك الأسري، وأصبح فيه الكل يحارب من أجل مصلحته الخاصة. يجلو ذلك نفسه بالصفحة53، بنص « سدرة البهاء»: تبدو البيضاء هذا الصباح متورمة العينيين / سادرة في الرعاف / أحد ما / هشم أنفها بقبضة يد / تكنز عتمة العالم / أحد ما / في جلسة سكر بحي خلفي / يغزوه مواء قطط سائبة في كورال وحشي / يسلخ فروة الليل / …. يقف عند حد النطع يغمغم: لا شفيع لك اليوم/ أيها المومس الساردة في فروج الغواية /لا شفيع / ها لحمك السليخ على أرصفة المقاهي/ نهش الباب / ومجدك اللقيط/ برج دخان / يطاول سدرة البهاء.
الكلمات والجمل المختارة التي شكلت أرضية المجموعة الشعرية، تكرس الاستغلال والحرمان والسقوط في العدم. وحين ينظر إليها خارج تعريفهما اللغوي العادي البسيط، نكتشف عمقا وامتدادا دلاليا يتناسب مع سياقهما وبعدهما الرمزي، الذي ينفتح على آفاق متعددة، مما يجعل التفكير يُحلق ويبتعد ليلامس الحلم والأمل اللذين يشدان النظر نحو التغيير، الذي يحلم به الشاعر. هذا التغير الذي يرفضه واقع يكرس الحرمان والمعاناة والاستغلال.ندرج في السياق بعضا منها للتوضيح: عدم/عماء/نفي/ ريح/ رماد/حرب/اللامعنى/ مجهول/اللاشيء/أشلاء/ليل/الهول/الغياب/العتمة/ القعر/طفولة منقش/ الساحة النافقة/ قعر بلا قرار/صرخة/الأيام المهدورة/ جلسة سكر/كورال وحشي/رجلا بالا وجه/الجحيم/ الأشغال/جرح/الأعمال الشاقة/أللامكان/أعمى/الإعدام/ عتمة الأنفاس/ غبار العدم/ الخلاءات/صباح/ أعمى/ سجان/ غياب/صانع العاهات اللامرئي/جرس سيارات الموتى/أيام من هشيم/ يقايضون المدينة بحفنة من لا شيء/….
تنطلق النصوص بشكل مباشر، مستغلة الفضاء العام والبياض والنقط في بعض الأحيان، لدلالتهما الفنية والتعبيرية التي تضيف عمقا جماليا وتعبيريا يدعو للمشاركة في تشكيل المعنى. تعرض حالات إنسانية في تجليات مختلفة، يتداخل فيها الزمان والمكان والذاكرة. يجلو ذلك نفسه بنص «ساحة الأمم المتحدة» ونص «بيت الأسلاف» وكذلك نص «سدرة الهباء».
تلك الظواهر الاجتماعية التي تناولها الشاعر بالتحليل والدراسة، أخضعها للتشريح داخل دائرة معيشتها، من أجل إظهار ونشر انحرافاتها السلوكية، والنفسية، وانهيار العلاقات الإنسانية بصفة عامة. فالشارع البيضاوي أصبح مرتعا للزومبي وذوي النفوس المريضة التي لا تتوانى عن فعل أي شيء لإشباع رغباتها المنحرفة.
تأسيسا على ما قيل، يمكن التأكيد أن نصوص «سدرة الهباء» تعكس حقائق سرمدية غوَّلَت المدينة، ولن تتغير رغم التغيير الذي طال الإنسان نفسه. تلك الحقائق يدرجها الشاعر ليحل الرابط بينها وبين الواقع، وليخرج من جوفها المعاني التي يريد منها أن تصل إلى المتلقي، والتي بخروجها تتجلى كحقائق بصبغة مألوفة، ويسهل تبنيها، لأنها قُصت من واقع نتشاركه جميعا. فوُضعت ورُسمت داخل إطارات جميلة، اعتمد في بنائها على لغة شعرية استمدت قوتها من طريقة غزلها وترتيبها ودمجها وزخرفتها، وأسلوبها الممتع السلس، الذي ينساب ببطء من المنبع إلى المصب. اختلف باختلاف الأماكن التي مر من خلالها، مزيلا عنها ضبابتيها، مبرزا عيوبها ومشاكلها من خلال النبش في مرجعياتها وأسبابها ودوافعها. مستشهدا بأماكن لصِيتها وشهرتها، من أجل إظهار ونشر انحرافاتها السلوكية، والنفسية، وانهيار العلاقات الإنسانية بصفة عامة.

ديوان: سْرَةُ الْهَبَاء، منشورات بيت الشعر المغرب.
من 1 إلى 31 العناوين حسب ترتيبها داخل الديوان


الكاتب : عبد العالي أناني

  

بتاريخ : 13/06/2025