1ـ إحتفاءً بالماء:
« الماء» هذا العنصر الحيوي، الماء ذاك الكائن الفريد، الماء لازمةُ الموجودات والمحسوسات. الماء … الوجودُ … وكفى.
يحتفي النص الروائي « خضرا و المجذوب لعبد المالك المومني الصادر عن مطابع الرباط نت سنة 2015 في نسخته الأولى بالماء، ويُفْرد له مجالاتٍ بهيجةً ووارفةً، ستكون محور تقصٍّ وٱستجلاء في ما سيأتي.
و قد راهن الكاتب على الماء منذ العنوان، حيث الخضرةُ و حيث الجذبُ؛ فالأمران معا في هذه العتبة وثيقا الصلة بعنصر الماء، يكفي أن نشير إلى أنّ لَا خضرةَ في الطبيعة دون ماء، كما أن الجذبَ فيها إنما يتأتَّى بفعل نقصانه و قِلَّتِهِ. على أن العناوين الفرعية الستة و العشرين داخل العمل الروائي تُفصحُ مباشرة عن تبنِّيها لنفس التِّيمة ، فهي تبتدئُ بعنوان: « ماء « ص7، هكذا بطريقة مُنَكَّرَةٍ نكِرَةٍ، لكنها مَعْرِفة مُعَرَّفة، هي الماءُ.
و الأمر لا يتوقف عند ذلك، بل إن بُؤرةَ الحَكِيِّ ككل تدور حول عين « الرّكّادة « ، الناعسة، حيث السرد و نسْجُ الأساطير و الرواية للأحداث. وتُطِل علينا أيضا لوحةُ الغلاف، و لعلنا في الحقيقة أمام لوحتين أو تصميمين.
فالتصميم الأول في الواجهة ، إذْ يُظهر بألوان مختلفةٍ يتخذها الماء خلال حالاتٍ، في البِرْكة، أو في النهر أو في البحر أو في العين، و يتأثَّثُ التصميم بقطرةِ ماءٍ مُوشِكةٍ على سقوطها فوق سطحِ مياهٍ راكدةٍ ناعسةٍ. أما عن صورة ظهر الغلاف، فثمة تصميم ثان لعين « الركادة» ، لكنه يحيل على الفرح أكثر، إذ يلعب أطفال بجوار بناء دائري محيط بنبع مائي، كما يحمل أب إبنته في حنو ظاهر بالقرب من ناعورة تدور بفعل تدفق المياه، مما يضفي على المكان رونقا خاصا، يبين الالتجاء إليه ساعة الحبور و المسرة.
2 – عشق من الماء و إلى الماء:
لعلنا أمام تقاطع بهي مع الروائي العراقي الدكتور علي القاسمي في عمله : « مرافئ الحب السبعة « بالصفحة رقم 90 ؛ حين قال : « ما رأيت الماء إلا أحسست بنوع من اللذة الخفية. كنت أعتقد في طفولتي أن اللذة والألم من مشتقات الماء ، أو أن الماء من مشتقاتهما.»
يبقى الماء إذا أسطقسا حاضرا بكثرة في النص الروائي، وقد تقصد الكاتب إقحام أسماء أماكن بالمغرب الشرقي، ذات نبع مائي، مثل: بئر اجراوة أو بئر مللي أو عين الركادة، كل ذلك في تماه جلي وصل حد الحلول. يقول الكاتب السارد متحدثا عن عين الركادة: « كانت عيني التي أنظر بها إلى العالم.» ( ص121 من الراوية) ، فاعتبار العين كمصدر للماء عينا للنظر و للبصر و للرؤية … وفي ما بعد للرؤيا … لعمري هو قمة التماهي والانصهار . ونعثر في الصفحة 17 على قول الكاتب متحدثا عن عين الركادة :
«كتبت حكايتك/حكايتي …
وحين قرؤوك/قرؤوني … قالوا :غرقت.»
يتبين أن الكاتب قد اختار التعبير عن إحساس داخلي دون إقامة حدود فاصلة بين الواقع والتخييل ، وذاك ما وضعه في سرد بعيد عن التكلف. حيث كانت الغاية التعبير عن مكنون جواني متعالق جدا مع واقع خارجي. و تدعم ذلك أيضا بتدافع كثيف للأصوات، لكنها في الحقيقة صوت واحد، فالسارد هو الحاكي، وهو البطل أحمد، وهو الكاتب عبد المالك المومني، كلها أصوات لإحالة ولمرجع موحدين متحدين.
ويبدو أن الانسيابية في التعبير عن المختلجات ما كان لها أن تصل ذروتها دون أساليب راقية، عمد إليها المؤلف قصدا، من ذلك النصوص الشعرية الزجلية ، والتي كانت عميقة في مغازيها ، غائرة في مدلولاتها. وقد حفت الرواية بالكثير منها ( انظر الصفحات أرقام: 9-27-38-45-100-123 ) وردت جلها إن لم يكن كلها غنائية ملئى بتراتيل عبارة عن كلام موزون ذي نوتة موسيقية رائعة الصياغة و القول.
إن لهذه المادة واستعمالاتها القوية هنا غرض أساسي يتمثل في الاستطراد أو الاسترسال، تأتي لتورط المتلقي في لحظة السرد التي انخطف بها وإليهاالسارد/ الكاتب، حيث ما تفتأ تعود به صوب المعاني السابقة، التي وردت على لسان أحد الشخوص. فحين يقول «الصوت» المخاطب لأحمد البطل في الصفحة رقم 9:
« مولاتي خضرا
الزينة العذرا
مرة زينة خضرا
ومرة خالية صحرا
هي ما تعذر
ونا من غرامها
عمري ما نبرا»
فإنما الكلام هنا مساق للحديث عن عين الركادة، عين الماء الناعسة التي هي حينا جنة خضراء، وحينا قاحلة صحراء، أو حين تهيج المشاعر في الصفحة رقم 38 عند الوقوف على رسمِ أو طلل القسم الدراسيبها، فللحديث أيضا شجنٌ وتعريج على عين الماء:
« يا حباب من ذاك السرجم
يا ما سهيت زمان نخمم
به عرفت سر الحكمة
وطلعت ب العلم محزم
دخلت من الباب طفل يتيم
وخرجت بيه طير يحوم. «
و نفس الشعور نلمسه في نص زجلي آخر بالصفحة 123 ، حيث معاتبة العين الناعسة/الراكدة على طول جفافها أو اجتفافها، حين نضب الماء وغار ، يقول :
« لْغيت ا خضرا الناعسة، فيقي
الذيب ما زال ف دارك، باقي
عنداك تّامني، عنداك تيقي
وفمي شحفونشف ريقي
آ خضرا لالّا، طال ركادك «
إن تيمة الماء المحتفى بها في العمل الروائي ككل، موظفة هنا بشكل واعٍ يحيلنا مباشرة على كتاب « الماء و الأحلام « لغاستون باشلار، والمُترجَم من قبل: علي نجيب إبراهيم في طبعة 2007 حين يقول: « موت الماء أكثر حُلميةً من موت التراب. لا نهائي هو عذاب الماء. « وكأني بالمؤلف الكاتب يرى في هذا الجفاف عذابا وموتا، ولَعَمْري إن الأمر لكذلك !!
3 – بلاغة الأحلام
يستمر الحَكِيُّ في النص الروائي ويعرج بنا صوب الأحلام، وهي في الحقيقة صنفان هنا، أحلام افتراضية ( الصفحة 31 ) وأحلام يقظة (الصفحة 19)، وإن كان لهذه الأخيرة دور في ترتيب أحداث العمل الروائي و دفعها إلى سياق خاص بالسارد وهو طفل صغير متمدرس. سيتخيل شخوصا وأشباحا وامرأة في ليلة احتجاب للقمر(الصفحة 19)، إن كان ذلك، فإن الأحلام الافتراضية هي بؤرة النص ككل، إذ عليها ستقوم الفكرة المحور. فتأسيس جمعية لقدماء تلاميذ مدرسة الناعسة-الركادة بهدف إنقاذ العين وتجميل محيطها ووضع تصورات وتصاميم تليق بذكراها – ذكريات الصبا والطفولة- قصد الحفظ والاعتناء والتخليد، هو الخط الرئيس الذي انبنت عليه جل الوقائع الأخرى (عوائق إدارية، طموح أجنبي للمتاجرة في مياه العين) والذي تفرعت عنه ومنه محكيات ذاتية مرتبطة بالاستدعاء الجميل للأسطورة أو للحكاية العجيبة/الغائبة، الفنطازية (حكاية للا خضرا المنقولة على لسان الكوال= القوًّال، أو المجذوب، أوالمهبول، أوالبهلول ) من الصفحة 94 الى الصفحة 98 في الحلقة الأولى، وكن الصفحة 103 إلى الصفحة 110 في الحلقة الثانية، كلها مصوغة بلغة راقية واقعةٍ بين الفصحى والعامية، ننعتها باللغة الثالثة، وهذا ما نستحسنه إيقاعاً ومضامينَ.
4 – نصوص موازية
في خدمة تيمة « الماء «
ولعل ذاك ينقلنا مباشرة إلى استراتيجية سردٍ مستثمرةٍ للحكايا الشعبية وبالضبط لتقنية العمل على نصوص تراثية وتنميطها في قالب حكِيٍّ روائي. إن عبد المالك المومني في لحظة ما، قام بمسْرحَةِ العرض (الصفحة 142) حين تم الالتجاء إلى تنبيه المتلقي صوب مشاعر الحب الكبير المُهدى للعين الناعسة/الركادة، فكان تناوب الأصوات/ الشخصيات على إبداء هذا الإحساس في ترديد جماعي من الجوقة لِلَازمةِ القصيد المُؤدَّى.
وقد كان لافتا في النص اعتماده على مناصات أخرى، موازية للحكي، داعمة له، وهي الوثائق المختلفة و المتعددة التي أرفقها الكاتب و توزعت بين التصميم الطوبغرافي ( الصفحتان 79+ 80) وبين الوثيقة التاريخية التأريخية (الصفحة 159) وبين تضمينات مستقاة من مواقع التواصل الاجتماعي (الصفحة 34) وأيضا بين الاقتباس لنصوصٍ تاريخية: مقتطف من كتاب: « مغرب الرومان « le Maroc des Romains لصاحبه لوي شاتلان ( Louis Chatelain ) = الصفحتان 114+115.
كل ذلك يندرج في إطار خطة استدعاءٍ للتاريخ الحقيقي للمنطقة، و ما ذاك الاشتغال إلا لغرض نبيل: رد الاعتبار للعين، عين الركادة، ما يعني شعرية المكان وما يعني تماسَّ كل الخطوط والمهارات في سبيل المقام، وسيدة المقام :
« للا خضرا حورية المكان و مولاتو
من شافها وشافتو لبحرها جلباتو
واللي زارتو فمنامو و عاوداتو
ملكاتو وسكناتو عمرو و حياتو» .
الصفحة 27.
5 – بين الخروج والعودة
إشارتان أفضل أن أُفرد لهما موقعا خاصا وردتا في الرواية، وهما معا متناغمتان؛ وإحداهما تُؤنس الأخرى، بل وتفضي إليهما.
v الأولى: علاقة شخصية « خضرا الدلالة « التي كان دورها دايَةً أو قابِلة ( امرأة تساعد الوالدات في الوضع وتتلقى المواليد ) حيث سيتم طردها من القرية بعد ادعاءاتٍ و افتراءات في علاقة مشبوهة وغبر شرعية ب الكوال حسب زعم بعض الأهالي. فما يستوقفني هنا هو عملية الإخراج هذه، حيث مَنْ كان سببا و مساعدا على الإخراج من الرحم، سيجد نفسه مُخْرَجاً و مطرودا من رحم القرية/الحضن، يعني إعادة إنتاج، لكن بطريقة مُشوهة ممسوخة وغير سليمة !!
v الثانية: وهي علاقة السارد الكاتب، والذي هو أحمد الطفل، الصغير الذي لقبه أقرانه ب «بلًّارج» = اللقلاق، وهذا الطائر معروف عنه وفاؤه العظيم لمكانه، إذْ رغم هجراته الموسمية، فإنه يعود صوب عشه/ موطنه الأصلي. والأمر هذا يجد صداه في العمل الروائي، حيث يعود أحمد من الرباط بعد أن كبر وكبرت عائلته … إلى عين الركادة وكله شوق وحنين إلى موطنه الأول. فقد شب وترعرع ونما، وهو يطمح رفقة أصدقائه/أقرانه في إعادة ترميم المكان/المقام/الموطن/العش بشكل أبهى حفظا للذاكرة ووفاءً للذكرى.
الواقعتان كما أسلفت، متلازمتان من حيث الخروج والإياب بشكل من الأشكال. فنحن نعثر على خروج « خضرا « من القرية، وخروج أحمد صغيرا منها، ثم خروج الأطفال من رحم أمهاتهم، وبالمقابل نجد إياب أحمد إلى القرية وإياب الأقران / الأصحاب كذلك، وليس ثمة عودة « خضرا « ! إلا أنها عادت، أو أُعيدتْ بفعل استراتيجية السرد التي مارسها الكاتب بلسان « خضرا الدلالة «، ما يعني رد الاعتبار لهذه الشخصية التي طالما ساهمت في «إخراج» حيوات إلى الوجود، حيث قامت ب «إخراج» الأطفال من شوقهم وعطشهم المعنوي في معرفة بقية أحداث ووقائع حكاية/حجاية «للا خضرا لَوْليّة مولاة المكان» = الحكاية الغائبة في فصل:
«حنَّا وختم الحكاية « من الصفحة 143 إلى الصفحة 149، تلك الحجاية التي بدأها الكوَّال البهلول وأنهت سرد وقائعها هي، خضرا الدلالة من خلال القصّ الشيق.
على سبيل الختم:
قال الاستاذ عبد المالك المومني في آخر صفحة من روايته : « خضرا والمجذوب « بالصفحة 208 : « هذه روايتي … هذه ذاكرتي و نظرتي ، لا تلزم أحدا. « لعل الصيغة التي جاءت هنا ، دليل قاطع على أننا أمام عمل من جنس المحكي الذاتي حيث تَذْويتُ الكتابة وحيث الحدود ملتبسة بين الواقع والتخييل.