قراءة أولية في «رسائل الكفران» لمحمد بشكار

صدر أخيراللشاعر والكاتب محمد بشكار كتاب جديد يحمل عنوان «رسائل الكفران: يوميات لم تسقط من مُفكِّرتي»، ويتضمن تقديما كتبه الروائي المغربي الدكتور سعيد بنسعيد العلوي.
صدر هذا المؤلف ضمن منشورات مكتبة سلمى الثقافية بتطوان، ويقع في 185 صفحة من الحجم الكبير، أنجز لوحة غلافه الفنان التشكيلي أنس البوعناني، وتكفَّل بالتَّصْميم الفنان محمد العروصي.

 

يستدرج كاتب «رسائل الكفران»القارئ منذ عنوان الكتاب، يُغريه بمساءلةِ نصوصه المتعددة، وما تستغورهُ من أفكار ودلالات ورؤى وجماليات تسعى إلى فهمِ الذات، وما تنبض به من وهج، في علاقتها مع العالم من حولها. وهي نصوص تعلنُ عن تشكّلاتها في لحظة من لحظات الكشف الإبداعي، تنفتح على أفق تجريبي، وتنسج عالمها الإبداعي، بتجاوزها الأشكال السائدة.
فإذا كان العنوان عتبة أولى لأي نص كيفما كان نوعه أو جنسه، يمثل المدخل الأساس لفهمه،ولتكوين رؤية شاملة عنه، فإن عنوان الكتاب الأساس «رسائل الكفران» استطاع الدخول مباشرة في حوار مع قارئه من خلال ألفاظه المعبّرة عن معان ترتبط بالتواصل وتبادل المعلومات والأخبار من جهة الرسائل، وترتبط بما هو مخفي ومُضمر وجاحد من جهة الكفران، كما استطاع التعالق بشكل كبير مع عنوان تراثي، له حضور قوي في وجدان القارئ العربي، وهو «رسالة الغفران»، التي تضمّ آراء أبي العلاء المعرّي في الدين والعلم والأخلاق والفنون.
وهناك عنوان فرعي في آخر الكتاب «يوميات لم تسقط من مفكرتي» يوجه القارئ نحو شكل من الأشكال النثرية وهي «اليوميات»، التي ينفي عنها الكاتب السقوط من مفكرته ليوحي بالترابط بينها وبين الرسائل التي يريد تمريرها للقارئ. هنا نجد التداخل الأجناسي وتجاوره في النصوص، بشكل لا تمنح معه نفسها مرة واحدة، وإنما يكتشفها القارئ شيئا فشيئا كلما توغّلَ في تلافيف رؤاها. الأمر الذي يجعلها توجّههُ كي يمتلك استعدادا، ومؤهّلات تتيحُ له فهمَها وتأويلَها، ووضع الأصبع على مقصدياتها ورسائلها وكنهها. وتُغري الباحثَ للكشف عن تأويل معين، لعله يقبض عن بضع جمرات من فهم الكاتب لما هو مخفي ومضمر من سوءات، ويتلقّف رسائله عنها، التي تعيد إنتاج عناصرها المتشابكة مع أحلامه وآماله وهواجسه.
فالنصوص تكشف عن تأملات عميقة، من وحي تجارب ذاتية وموضوعية، تمتلك درجات عالية من صفاء الرؤية ورهافة الإحساس، وغنى المخزون المعرفي واللغوي والتعبيري وتنوعه، والالتصاق بالواقع ومشكلاته وقضاياه الخاصة والعامة، تنبئ عن فلسفة الكاتب في الحياة الآهلة بالحكمة والهدوء، يعبر عنها ببلاغة جمالية متنوعة، تتسم بالنقد والإدهاش والسخرية والطرافة والمفارقة. يقول محمد بشكار في أحد النصوص التي تنتقد أحوال بعض المبدعين: «لا يتسوّل كتابات الآخرين لكتاباته إلا معدم إبداعيا، فقير»ص16. وفي السياق ذاته، يسعى نحو تقرير رأي مقنع: «الرواية التي تُروّج لنفسها أبلغ أثرا في المكان وفي كل الأزمنة من الرواية التي يُروّج لها كاتبها حتى قبل أن تُطبع»ص18. وفي نقد ساخر يقول: «أفظع ما يُلغي شخصية الإنسان، أن يسهو تاركا أنانيته تأخذ الكلمة لتتحدّث بدله»ص46. ومن القضايا التي تحضر في النصوص، قضايا تمتدّ من الخاص إلى العام، من أبرزها قضايا الثقافة والأدب في مثل قوله: «النقد الذي يُعرّي رداءة بعض الأعمال الأدبية قد يثير شهية القراء لقراءتها، مما يجعلنا حائرين هل نلزم الصمت إزاءها، أم نقاربها مثرثرين، لنزيد في انتشار رداءتها فتعمّ الجميع بدل الفائدة تلك الرائحة»ص16. وقضايا الشأن العام: «لا أعرف هل صدفة أم عمدا أقدمت الحكومة على الزيادة دفعة واحدة في ثلاث مواد قابلة للاشتعال: الخمرة والسجائر والزيت، أما الفتيل فهو بالمجان عند أقرب بقال»ص94. كما تحضر بعض القضايا الوجودية والفلسفية، ذات تساؤلات حارقة، مثل طبيعة النفس البشرية وتناقضاتها، والعدل والحرية وغيرها.
قد تبدو النصوص غير مترابطة، ومنفصلة عن بعضها البعض، إلا أنها لا تخرج عن سياق الخطاب الرسالي الإنساني الذي يتغيّى المبدع إيصاله للمتلقي. كما أنها تكتسب خاصية الترابط من خلال مجموعة من المعايير التي تساهم في تناسق نصوص الكتاب، منها التكرار، فالكاتب يسعى نحو تكرار الحديث عن قضية معينة، من زوايا مختلفة، لإثارة انتباه المتلقي إلى تفشي بعض الظواهر العبثية فيها كالفساد والمحسوبية وغيرهما، من مثل حديثه عن أحوال الثقافة والمثقفين والأدبوالمتأدبين.
ومن المعايير التي تكشف عن تناسق نصوص الكتاب الإحالة، وأعني بها تلك العلاقة التي يربطها المبدع بين النصوص ومواقفه في العالم الخارجي الذي تشير إليه، بما يمكن أن نسميها بالإحالة المقامية، حيث نجد بعض النصوص لا تكتفي بذاتها من حيث التأويل، بل يمتدّ غناها الدلالي، إلى ما تشير إليه في نصوص أخرى من أجل فهمها وتفسيرها وتأويلها، بشكل يتمّ فيها اتساقها وترابطها.
والمبدع نسج هذه النصوص بإيقاع يتراوح بين السرعة والبطء، والطول والقصر، على نحو تتجدد فيه جمالية اللغة ووظائفها التصويرية. فما بين أقصر نص»الظل كلب أليف»ص90 وأطول نص ص26/29، نجد ومضات إبداعية مكثفة باقتدار، سواء على مستوى اللغة والصورة، أم على مستوى الدلالات المشرعة على آفاق التأويل، كما نجد نصوصا مفصّلة، تمرّر رسائلها بشفافية ووضوح.
وقد استمتعت بقراءتها أكثر من مرة، لأنها من النصوص التي ترصد، بعين ثاقبة وشاعرية شفافة، الكثير من الظواهر السريالية والعبثية التي تكتنف واقعنا الثقافي والاجتماعي، تؤكد مواقف المبدع منها، كما تؤكد بأننا لا نزال ندور في حلقات مفرغة، ابتداء من أمراض العقم التي نعانيها، وانتهاء بأمراض الفساد. وبين هاته وتلك، لا ينتظر المبدع الجواب في الحين، ويتركنا للتأمل المثمر.

كلية الآداب بتطوان


الكاتب : دة. سعاد الناصر

  

بتاريخ : 07/10/2022