قراءة في الرؤية الاخراجية لمسرحية «طرز الحساب»

بفكر حداثي مؤمن بقضية المساواة والإنصاف أمسكت المبدعة نعيمة زيطان بخيوط لعبة إخراج مسرحية «طرز الحساب» لتقدم بدورها طرزا جديدا لطرز المؤلف حسن هموش وطرزت كتابة ثانية في قراءة وتأويل فني أفرز عرضا جميلا ممتعا هادفا مكشوفا في دواعيه و مراميه..
أعتقد حسب قراءتي أن الرؤية الاخراجية ارتكزت على استحضار منهج بريخت في اعتبار الخطاب المسرحي تنويرا فكريا يقدمه الممثل بوعي كامل وبتسطير مسافة فاصلة بين شخصه ككائن مدرك لما يقوم به وبين الشخصية التي يؤديها بكل صدق وإتقان لتصل الى الجمهور وتساهم في تحفيزه وتثويره من أجل تغيير كل أشكال الظلم والتمييز، هكذا إذن تكشف مخرجة العمل، منذ بداية العرض وبشكل متدرج، عن المشكل وتنميه تباعا بظهور شخصيات العرض كل من زاوية معينة دون السقوط في التكرار، بل تزيد الأحداث حبكة وتشويقا عبر تنويع الحوارات مع الذات في شكل مناجاة ومع شخصيات أخرى مثنى وثلاث ورباع، وفي تكتلات متوازنة مرنة ومتحولة عبر مساحات ومستويات اللعب الركحي في تموضع وتنقل الممثلين دون مبالغة أو ضجيج بفعل قيادة محنكة لتصريف طاقات إبداعية دون خروج أو إفلات، وسيلاحظ المتابع أن التنزيل العملي للرؤية الاخراجية تجلى في طرز أحداث العرض في لوحات صراع متعدد داخل وحدة تحفظ للعرض سيرورته وإيقاعه المتجدد والمتنوع حسب المواقف التي تنسجها شخصيات العرض في تجاذبات من قبيل لوحة الصراع المركزي بين العم الممثل الفكر المتحجر المقتنع بأحقيته في إرث أخيه، وزوجة الهالك وابنة أخيه المتحصنتين بقوة القانون الوضعي لدرء منطق التعصيب وهضم الحقوق، ومن هذه القضية المركزية تتفرع قضايا أخرى متكاملة معها كلوحة الصراع بين الأخ وأخته التي حرمها من حقها في ميراث أبيها وتركها لمصيرها مشردة رغم أنها ضحت بشبابها لخدمة أسرتها، ولوحة الصراع بين الأب الواثق من صواب موقفه لنيل حقوقه، وبين ابنه المثقف الذي اختار الاصطفاف إلى جانب الحق حسب منطق العقل والعدل رغم أنه ظاهريا ينصاع لأوامر أبيه و يحاول إصلاح ذات البين في نفس الحين..
مجموعة لوحات من الصراع حول مطلب الحق والأحقية، تخفي مٱسي اجتماعية بفعل الطمع و الجحود واغتصاب الحقوق ونكران الجميل..، ومع ذلك استطاعت مخرجة العمل بحنكتها وتجربتها إضفاء طابع الفرجة الفكاهية الراقية في بناء هذه اللوحات كما نجد في حوار الأخ مع هاتف صوت أخيه الميت، ولوحة تأديب الأخت لأخيها بالتشبيه المستمد من صور الأمثال الشعبية التي تحمل نكهة فرجة الحلقة والبساط التي تتطلب تجاوبا بين المرسل والمتلقي بالضحك الاستهزائي..، وفي ذروة الحبكة الدرامية تقدم المخرجة لوحة بمثابة بوح حميمي بين الزوجة وأخت الفقيد حول الموت والزواج.. كل منهما تحكي حرقتها بأسلوب يجمع بشكل تجريبي بين البكاء والنواح والحكي الهزلي الذي يخفي أو يذيب مرارة «ضجعة» الموت بكأس الماء البارد وتكرار لازمة «واش مات «بجواب» لا مازال»، في مقابل حكي الأخت عن ضياع زوج وبيت بسبب ضيق الحال..
مضامين حزينة بلغة فكاهية بسيطة و سلسة تنفذ دون وسائط إلى وجدان المتلقي بفعل إيحاءات رمزية كما شاهدنا في لوحة حل العقدة عندما دخلت ثلاث نساء يحملن حقائبهن اليدوية، وهي إشارة بليغة إلى أن الحل الحقيقي بيد النساء وفي حقائبهن في لحظة الجلوس والوقوف والخروج بحركة أحادية تشير الى وحدة الصف وقوة الصوت ورجوعهن بحقائب فارغة تركت خيبة وصدمة للطامع في الإرث بفعل هيمنة العقلية المتحجرة داخل نسق أو منظومة محافظة كما ورد في حوار بنت الأخ والابن وتكرر مع العمة..
نعيمة زيطان مخرجة «طرز الحساب» متمكنة من أدوات اشتغالها، تضبط زمن الاشتغال الركحي، وتذكر به من حين لٱخر، وقد تعدل و قبل أن تؤشر على كل مكونات العرض.
قبل بداية العرض خاطبت المخرجة الممثلين بلهجة التحفيز.. إن أصعب أداء يقدمه الممثل حين يكون العرض بدون جمهور….
هذه تفاصيل صغيرة ولكنها سمة الكبار (يتبع…)

مؤلف وباحث مسرحي


الكاتب : قاسم العجلاوي

  

بتاريخ : 08/05/2021