فاز فيلم (19ب) للمخرج المصري أحمد عبد الله بثلاثة جوائز في الدورة 23 لمهرجان السينما الإفريقية المنعقدة حاليا بمدينة خريبكة المغربية وهي:
تنويه خاص من لجنة النقاد الأفارقة
جائزة أفضل ممثل لبطله سيد رجب
جائزة الإخراج
“وتدور أحداثه حول حارس عقار مسن يعيش حياة روتينية في فيلا قديمة منذ ستينات القرن الماضي تصبح هي عالمه الخاص. ولكن شابا حديث الخروج من السجن، يكسر استقراره باقتحام مساحته الخاصة، ليجد الشيخ الحارس نفسه في مواجهة لم يتوقعها يعيد فيها اكتشاف ذاته من جديد”. بطولة: سيد رجب، أحمد صالح، ابن الممثل الراحل خالد صالح حيث الشبه كبير بين الإثنين، فدوى عابد، مجدي عطوان، ماهر خميس ثم ناهد السباعي وهي حفيدة الفنان فريد شوقي والفنانة هدى سلطان، والدتها هي المنتجة ناهد فريد شوقي وخالتها هي الممثلة رانيا فريد شوقي.
1 – بطولة مكان
يندرج العمل في خانة الأفلام التي تتخذ من مكان محدد، فضاء قارا لجريان الأحداث وتفاعلها عبر شخصيات وأزمنة متباينة قد تطول أو تقصر حسب الفترة التاريخية التي يغطيها الفيلم. والأمثلة كثيرة سواء في السينما العالمية أو العربية المصرية عينها. فمن أشهر الأفلام العالمية من هذا القبيل (العائلة) لإيتوري سكولا (1987) من بطولة فاني آردان وفيتوري غاسمان. حيث يتم نقل تاريخ إيطاليا كله خلال 80 سنة من 1906 إلى 1986 داخل شقة لا تغادرها الكاميرا.
أما على مستوى السينما المصرية فيمكن ذكر: (القضية 68) لصلاح أبو سيف سنة 1968 وإن كانت الأحداث تجري في حارة، لكن بطل أو بطلة الفيلم عمارة ترمز لمصر. نفس الشيء يمكن قوله عن فيلم (عمارة يعقوبيان) لمروان حامد 2006 – ثم (شقة مصر الجديدة) لمحمد خان 2007 . ومؤخرا فيلم (حدث في 2 طلعت حرب) للمخرج مجدي أحمد علي 2022 الفائز بجائزة أحسن إخراج في الدورة 22 للمهرجان الدولي للسينما الإفريقية الذي نظم بمدينة خريبكة في السنة الماضية.
2 – بطولة حيوانات
العنصر الثاني الذي يمكن اعتباره بطلا في هذا الفيلم هو تلك الحيوانات الأليفة – حوالي12 بين قطط وكلاب – والتي لا أقول “ظهرت” في فيلم (19ب) ولكنها “اشتغلت” ومثلت أدوارها الحقيقية في التعايش مع العنصر البشري بمختلف مكوناته داخل تلك الفيلا المهترئة. وقد جيء بعدد منها من منازل بعض الأصدقاء بينما تم استقدام أخرى من الشارع دون أن تعود إليه، حيث صرح مخرج الفيلم أنه تم تبنيها من طرف فريق عمل الفيلم بعد انتهاء التصوير. أما فيما يخص الكلب “عنتر” واسمه الحقيقي هو “قطمير” فقد قالت المنتجة المنفذة يارا جبران إنه وقع الاختيار عليه من مدرسة لتدريب الكلاب على التمثيل، بعدما وجدوه مصابا بالعديد من الإصابات الجسمانية والنفسانية فقاموا بمعالجته ليؤدي دورا رئيسيا في الفيلم.
وهكذا اندمجت تلك الحيوانات البطلة في تركيبة الفيلم واعتادت على العيش في الفيلا التي يحرسها حارس العقار، بشكل عفوي وكأنها أصلا تعيش معه ومع بقية الشخوص، حيث علّق المخرج: “قضينا فترة معايشة مع الحيوانات الأليفة أثناء الفيلم، ولم ندفعهم إلى التصوير ولا حاولنا إجبارهم، بل كنّا نتركهم بطبيعتهم وننتظر اللحظة المناسبة لتصوير المشهد. وقد جعلتهم فترة التعايش التي قضتها حيوانات الشارع مع أبطال وصنّاع الفيلم، يتصرفون بطبيعتهم الخاصة، فتفاجأنا بردود أفعالهم في بعض المشاهد، والتي كانت نابعة من حب وتعلّق بالشخصية”
3 – صمت هادر
منذ اللقطات الأولى يولجنا السيناريست المخرج أحمد عبد الله في أجواء الفيلم القاتمة والتي أملتها طبيعة المكان أو البطل الأول في الفيلم، تلك الفيلا المهترئة الآيلة للسقوط تسندها ركائز وأعمدة قد تنهار في أية لحظة. هي فيلا مقفرة تماما لا يقيم فيها مما هو باد للعيان، سوى حارس مسن صحبة بضع قطط وكلب وفي وجرو يظهر ويختفي بين الحين والآخر. ناهيك عن الصراصير والعناكب والفئران والحشرات الغيرة بادية والتي يستحيل ألا تقيم في هذا النوع من البنايات المهجورة.
ويبدو أن طبيعة هذه البناية التي صور بها الفيلم، سهلت مهام المخرج كما مهندس الديكور حيث سيادة الرطوبة، انتشار الغبار، أسلاك مقطعة، حيطان مرقعة ومقشرة، سلالم مهشمة، سيلان حنفية ماء معطوبة كما انقطاع التيار الكهربائي باستمرار، ثم تدحرج قطعة حجر من هنا وهناك ضمنها حجرة كبيرة لم يعلم الحارس من أين ولا كيف حلت بالبيت؟ وبمجهود خرافي – رغم كبر سنه وهزال بنيته – يدحرجها خارج البيت ليفيق صباحا فيجدها قد عادت إليه؟ هي بشكل أو بآخر حجرة “سيزيف” كلما حملها حاملها إلى أعلى تدحرجت إلى الأسفل وهكذا.
إنها في النهاية رتابة الحياة اليومية للحارس المسن التي يعانيها في صمت، أدى الدور بإتقان مدهش الفنان الكبير سيد رجب (73 سنة) والذي بفضله حصل على جائزة أفضل ممثل في هذا المهرجان، رغم أنه كان قليل الكلام، يكتفي في معظم المشاهد بنظرات غائرة وطويلة لكنها ناسفة ملؤها الأسى على الوضع الذي يعيشه ثم السخط والنقمة على ذلك الشاب المستهتر الذي غشي عليه سكينته فأقض مضجعه ونغّص عليه عيشه. وبنفس القدرة من الإتقان والإقناع أدى الفنان أحمد خالد صالح دور الشاب المستهتر خريج السجون.
عبر إيقاع بطيء قد يبدو رتيبا لكنه يتماشى ونوعية الفضاء كما طبيعة حياة كل من يعيش فيه من بشر وحيوانات وحشرات وأتربة، توالت وقائع الفيلم في خط تصاعدي مع اختصار في الحوار وتفيأ ظلال ذلك الفضاء المضبب في حد ذاته وإنارته الخافتة، حيث كانت تبدو الشخصيات أحيانا مجرد أطياف. بينما تغلف ظلال الشمس المضببة بغبار الفيلا المتربة، الزوايا والردهات وفي ذلك اشتغال ذكي على عنصر الإنارة.
4 – أغاني زمان
وُظِّف عنصر الموسيقى باقتصاد كبير وبحدر فاسحا المجال لمؤثرات سمعية تأتي من الخارج كأزيز سيارة شرطة أو مطافئ، هدير محرك شاحنة أو دراجة نارية تمرق بسرعة، صياح صبية أو باعة يتردد من بعيد. لكن أهم مؤثر سمعي اعتمده المخرج هو ذلك الصمت “الهادر” الذي تفرضه طبيعة الموقف ككل بمختلف مكوناته البشرية والجغرافية (كبر سن الحارس والفيلا على حد سواء).
ونظرا لتفاقم جبروت ذلك الشاب التي وصلت إلى حد قتل الكلب الوديع “عنتر” ورمي الحارس خارج غرفته ثم ضربه، تحل العدالة السماوية من فوق لينهار حجر كبير من أحجار الفيلا المتهالكة واضعا حدا للطغيان والجبروت دون أن يهتم أحد باختفاء الشاب الطاغية ولا يعلم بمثواه وكأنه حشرة من تلك الحشرات داستها قدم ثم ردمتها في رماد البناية المتآكلة. بعكس الكلب الأمين الذي حفر له الحارس قبرا في أحد أركان الفيلا ودفنه فيها بكرامة ممزوجة بحسرة قاتلة.
إلى جانب أجواء الصمت والظلال يبقى مؤثر سمعي آخر لا يقل أهمية عما ذكر، ساهم بشكل بارز في تأتيت ذلك الجو القاتم الذي ران في فضاء الأحداث وفي الفيلم ككل هو “الأغاني” التي كان يستمع إليها الحارس الشيخ عبر (راديو كاسيت) قديم هو الآخر، وهي كلها أغاني قديمة / أغاني زمان لأم كلثوم، اسمهان وخصوصا محمد عبد المطلب الذي كان الحارس يستمع له باستمرار، على رأسها الأغنية التي استهل وانتهى بها الفيلم (في قلبي غرام) كلمات إبراهيم البهلوان، ألحان عبد العظيم عبد الحق. والتي يبدو من خلال الاطلاع على مفرداتها أنها صيغت لتعبر عن أحاسيس وموقف ذلك الشيخ الحارس الذي يضمر بقلبه غراما مكتوما ويعيش على ذكريات زمن ولّى، وسهر يكابد فيه شوقا لِلا أحد ولا شيء. يقول مطلعها:
((في قلبي غرام يصبرني على خصامك وطول بعدك
واقول أنساك يحايرنى ويغلبني زمان ودك
فى قلبي غرام يفكرني بأيام الهوى الحلوة
وذكرى هواك تسهرني ويسمعها الفؤاد غنوة
وتشجيني معانيها وارددها واغنيها
وأنا سهران
ويجي النوم يناديني ألاقي الشوق يصحيني
على الحرمان.))
قراءة في الفيلم الفائز ب3 جوائز بمهرجان خريبكة السينمائي ( 19 ب) للمخرج المصري أحمد عبد الله
الكاتب : نورس البريجة: خالد الخضري
بتاريخ : 20/05/2023