قراءة في «تماسيح مصممة لقول شيء ما» للقاص سعيد منتسب .. هل التماسيح «يضحكون»؟ نصوص تفترس قارئها…

«النصوص الجيدة لا نقرأها لنفهمها، بل لنضيع فيها»، كما يشير إلى ذلك موريس بلانشو. وهذه المجموعة،»تماسيح مصممة لقول شيء ما» في وحشيتها ورهافتها في آن، لا تمنح القارئ ترف الفهم السريع، بل تجره إلى مستنقعها… حيث كل جملة فكّ مفتوح، وكل استعارة لحم نيء، وكل نص هو تمساح يتربص.
تبدأ النصوص بمكر أسلوبي يشبه المكر البيولوجي للتمساح نفسه: مراوغة في البداية، هدوء، تواري في الطين. نصوص تصطنع واقعية حسية في أول وهلة، لتزج بالقارئ سريعًا في مناطق غرائبية، سريالية، فلسفية، وحتى علمية. هنا الأدب يبدو كمختبر كائنات هجينة بين بارث وكافكا، بين بورخيس وسلاوترهاوس فايف، بين عجائب القزويني ورعب هوارد فيليبس لافكرافت…
ما يلفت في هذه النصوص أنها لا تخضع لمركز ثقل، كل نص «حدث لغوي» مستقل، لكننا حين نبتعد قليلًا عن تفاصيلها نكتشف شبكة سردية تشتبك حول فكرة واحدة: “التمساح” بوصفه استعارة كونية للغريزة، السلطة، الصمت، المادة المظلمة فينا وفي العالم.
كما يلمح لنا بارث، «الكاتب يقتل مؤلفه حين يطلق النص، والنص يقتل قارئه حين يبتلعه».
القارئ هنا ليس في موقع الهيمنة، بل هو المادة الخام التي يشتغل عليها النص. هذا النص يعضك وأنت تقرأه. يصفعك بعبارات مثل: “العالم ليس إلا قطعة لحم خُلقت لتؤكل. واللحم خلق فقط من أجل العميان»؛ جملة كهذه لا تحتاج أن تكون «شاعرية» بقدر ما هي صفعة مفهومية: هل نحن نحن؟ أم نحن فقط غذاء؟! هنا يمكن استحضار سلافوي جيجيك ونقول: «حين نحدق في الوحش، نكتشف أن الوحش يرانا كغذاء، لا كحقيقة».
النصوص تمتح من أعماق اللاوعي الجمعي للحيوانات/البشر على حد سواء. وفيها ما يمكن أن نصفه بـ الأنسنة المقلوبة: لا نحاول فهم التمساح كإنسان، بل نحاول أن نفهم أنفسنا كتماسيح. وهذا انقلاب فلسفي في مقاربة الحيواني والإنساني معًا، كأننا نعود إلى “توتيمية” فرويد، أو إلى «الأنظمة الرمزية» عند ليفي-ستروس، حيث الحيوان مرآة لمكبوتات الإنسان، وأحلامه، وخوفه من الموت.
في النصوص التي استثمرت «التمساح الآلي»، نجد بعدًا مستقبليًا ينحاز إلى ديستوبيا الخيال العلمي: «تمساح المادة المظلمة»، «زبائن مطلوبون»، «لا أحد يهرب من عازف جيتار»… هنا يستعير النص معجمه من فيزياء الكوانتم والمادة المظلمة، ويلبس «وحش الغريزة» ثوب التكنولوجيا والآلة، كأننا في نسخة مظلمة من «بليد رانر» أو «إكز ماشينا».
وفي نصوص أخرى، يضرب في عمق التراث الشعبي والموروث اللغوي: تمساح محمد بن موسى الدميري، مثلما لو أن النصوص تعيد كتابة حكايات «العجائب والغرائب» بطريقة حداثية تتساءل عن جدوى تلك المعارف، وعن الغرائبية الدائمة التي تحكم علاقتنا بالحيوان، بالعنف، بالغذاء، وبالأسطورة.
ليس عبثًا أن تتناثر النصوص بعناوين تشبه نفسها: هجينة، سوريالية، تقيم في برزخ بين أسماء بشرية وأمكنة بعيدة وأساطير منسية. تمساح محمد بن موسى الدميري، تمساح ابن عبد ربه، تمساح أندرياس نيومان، تمساح جوزيه أغوالوسا… كلها عناوين تفصح عن اشتغال النصوص على حوار خفي مع المكتبة الإنسانية: بين أعلام من التراث العربي، وأسماء روائيين وشعراء عالميين، وجزر وأمكنة غرائبية. بهذا المعنى، تنفتح النصوص على طبقات مرجعية مزدوجة: فهي من جهة تلتهم الذاكرة الثقافية للقارئ، ومن جهة ثانية تقترح عليه نصوصًا جديدة تعيد إنتاج هذه الذاكرة في هيئة هجينة، كائن نصي يتغذى على الماضي والحاضر، المحلي والعالمي. حتى العناوين نفسها تصبح جزءًا من لعبتها التأويلية، وتدعو القارئ إلى تفكيك دلالاتها لا كعناوين وصفية، بل كعلامات على شبكة سردية معقدة، نصوص داخل النصوص، كما لو كانت كل قصة تعويذة تفتح بابًا جديدًا لتأمل علاقة الإنسان بالحيوان، بالعنف، بالوجود.
في مجموعة كهذه، القارئ يتنقل بين جغرافيا أسلوبية متقلبة: شعرية مكثفة هنا، لغة تقريرية باردة هناك، انزياحات سريالية في منتصف الطريق، وأحيانًا مفردات علمية باردة عن الأحماض والإنزيمات والبيولوجيا والمجسات. وهذا الخليط ليس عيبًا بل هو فضيلة؛ لأنه يعكس انهيار الأجناس الأدبية نفسها، كما تنبأ بذلك موريس نادو وأشار إلى أن المستقبل للنصوص التي تشبه المونتاج أكثر مما تشبه الكتاب.
القوة الإضافية في النصوص تكمن في أنها تجعل القارئ يحدق في «حقيقته اللحمية» بشيء من الرعب. اللحم هنا ليس مجرد مادة بيولوجية، بل كينونة وجودية: كلنا لحم. كلنا فريسة. كلنا تمساح في نفس اللحظة التي نُفترس فيها.
«هل التماسيح يضحكون؟» يسأل النص. وهذا السؤال البسيط وحده يفتح بابًا فلسفيًا على مقولات الحيوان عند جاك دريدا في كتابه «الحيوان الذي أنا عليه»، حيث الإنسان يدرك أنه مجرد حيوان آخر، يضحك، يتألم، يموت… لكن بنزعة نرجسية سخيفة تجعله يصدق أنه «أكثر من حيوان».
كل النصوص تنطوي على هذه النزعة التدميرية ضد النرجسية الإنسانية. ولا يترك الكاتب للقارئ مساحة لأن يتواطأ مع نفسه في وهم «الكائن الأسمى». هو يضعه في قلب لعبة سردية/وجودية يكون فيها مخلوقًا آخر يراقب ذاته تُلتهم في النصوص، فيتحول القارئ نفسه إلى نصّ.
ولعل ما يجعل هذه النصوص جديرة بقراءة كهذه هو أنها «تزعزع» القارئ. لا تجامله. لا تغازله. لا تريحه. وهذا، في حد ذاته، إنجاز أدبي لأن النصوص العظيمة هي التي تهز توازن قارئها، فالعمل الأدبي الحقيقي لا يقدم لك مرآة، بل يكسرها في وجهك.
هكذا تقرأ هذه النصوص: كساحة صراع. كساحة افتراس. كساحة أسئلة أكثر منها أجوبة.
ربما، في النهاية، نكتشف أن النصوص كتبتنا أكثر مما كتبناها.
لأن ما نقرأه هنا ليس مجرد حكايات عن التماسيح. ليس مجرد غرائبية محبوكة، ولا حتى تمرين أسلوبي طريف.
إنه أشبه بإعلان حرب: حرب على القارئ الكسول. حرب على القارئ الذي يدخل النص كي «يستهلكه» ثم يطويه ويغادر.
هذه نصوص تريد أن تمزق جلدك وأنت تقرأها، لتذكرك أنك أنت… اللحم. أنت الغريزة. أنت الصمت الزاحف تحت الماء. أنت الوحش الذي يخاف أن يرى صورته في النهر.
ولعل هذا ما يبرر ضحكتها الساخرة في النهاية، مثلما لو أن التمساح الذي يلتهمك يضحك بدوره:
«هل التماسيح يضحكون؟»
نعم. يضحكون… حين يرونك تظن أنك مختلف عنهم.
في هذا النصّ، ستكتشف أن الأدب، حين يكون صادقًا، حين يكون عنيفًا بما يكفي، هو في النهاية تمساح كبير يلتهم قارئه على مهل، يلتهمه جملة جملة، حتى لا يبقى منه إلا العظام.
وهذا، يا صديقي، أجمل مصير يمكن أن تحظى به كقارئ: أن تخرج من النص وأنت أقل غرورًا، وأقل يقينًا، وأكثر هشاشة.
أن تتأكد أنك أنت أيضًا، حتى وأنت تمسك الكتاب، مجرد قطعة لحم في العالم.
وأنك، مهما حاولت أن تبدو إنسانًا مهذبًا…
ستبقى دائما، في مكان ما في داخلك…
تمساحا.


الكاتب : فاطمة كطار

  

بتاريخ : 19/12/2025