في خضم تكاثر الأصوات الشعرية مغربيا وعربيا، تعتبر التجربة الشعرية عند الشاعر مخلص الصغير، وهو أحد أبرز فقهاء اللغة العربية بالمغرب، تطويعا مبتكرا لكتابة الشعر الحديث، وهو تحديث كان من أبرز رواده شعراء عرب تركوا بصمة في هذا المجال الأدبي، فالشعر الحقيقي يسعى دائما لإنتاج معنى المعنى في أرقى تجلياته، وهو ما يحافظ على ارتباط الدال بمدلوله القصدي. إذ يمثل هذا النمط الأدبي نسقا لبهاء الكتابة، وهو ما يعطيه من انطباع عندما نقرأه للمتنبي أو أبي العلاء المعري أو محمود درويش أو نزار قباني أو أدونيس أو أمل دنقل أو بدر شاكر السياب أو محمد الماغوط أو عبد الكريم الطبال أو محمد الأشعري أو عبد الرفيع جواهري أو محمد بنيس أو حسن نجمي أو أو ليوبود سنغور إلى غارسيا لوكا مرورا إلى مالارمي..، إلخ.
فالشعر الحقيقي عند الشعراء الكبار، يُحدث رنة في الأذن عند الاستماع إليه، أما الآن نلاحظ داخل مختبر السرديات الأدبية العربية، أن هناك شعراء يهرطقون****، وآخرون لتجربتهم الشعرية خصائص لغوية، تستدعي الإعجاب ، وتغذي الصورة الشعرية بانزياح كبير، غير أن هذه الحمولة الشعرية لا يمكن يمكن تجاهلها داخل المشهد الأدبي المغربي و العربي والإفريقي، إذ هناك شعراء يساهمون بشكل فعال في إغناء الشعرية العربية، ومن بينهم شاعرنا المغربي مخلص الصغير، الذي نحتفي به عبر هذه القراءة حول ديوانه الأخير الموسوم ب» الأرض الموبوءة».
بعد القراءة النقدية للخطاب الشعري عند مخلص الصغير، وإخضاعه للتحليل السوسيولوجي، نسجل ارتباط الشاعر بأربعة مفاصل رئيسية، وهي الميسم لأبرز قصائده التي تضمنها كتاب» الأرض الموبوءة» وهي:
تأثره بأوجاع الأرض التي نحيا عليها
-تشبثه بالوحدة الجامعة للهوية المغربية
-ارتباطه الوجداني بالمكان عبر احتفاءه بمدينة تطوان و مارتيل
-الحنين الذي يشده إلى زمن الوصل بالأندلس و عبق التاريخ المغربي.
أما عن تأثره بوجع الأرض، فالتطور البشري، والتحول الكبير في تاريخ الأرض، والجائحة خلفت شعورا عميقا، في نفس شاعرنا، وهذا التغيير عمق إحساسه ، والوعي الجمعي للبشرية بالجائحة، التي لم تصمد أمامها إلا القلة من الناس، أمام الترددات الجديدة للكوكب، حيث يقول في إحدى قصائده:
هكذا هي الأرض
تجرنا من يدنا إلى حتفنا
تقودنا إلى قبرنا
فما الأرض إلا قبور
تحتها قبور فوقها قبور
وفي ظل التراكمات التي راكمتها ذاكرة الشاعر حول هويته المغربية، الجامعة تحت مظلتها لتنوع الأعراق والأنساب،عبر تعدد الثقافات وتلاقحها على أرض بلاد المغرب، هو ما نستشفه في قصيدة «المغربي»،حيث يتجلى عبق التاريخ المغربي، إذ كتب يقول:
كنت محاربا
في صفوف أيدمون
وقائدا عائدا من النصر
مع الفجر
رفقة الشمس والسيدة الحرة
وواحدا من الرماة
الأنجريين
في حرب تطوان
أنا الجبلي
***
أنا الوعي والوعي الشقي
أنا الأرض والسماء
الكلمات والأشياء
أنا الوادي الدرعي
كما يذوب لوعة
ويستحيل دمعة
في سراب الصحراء
أنا الصحراوي
***
وعن عبق التاريخ المغربي، وفي قصيدة « الطريق إلى قرطبة»، والتي تستدعي زمن الوصل بالأندلس يقول في مطلعها:
في الطريق القديم
إلى قرطبة
أقتفي خطوات أبي المتعبة
باحثا عن ظلال لمنزلنا
بين أنقاض أندلس متربه
لا يزال معي الآن مفتاحه
بينما بابه
في الثرى
غائبة
وهو ما أجاب عنه الشاعر حسن البوقديري في مرثيته حول غرناطة القريبة جغرافيا من قرطبة قائلا:
غرناطة
ليست المدينة التي سقطت
ذات مرة
غرناطة
هي كل ما يسقط فينا
في كل مرة
هكذا الشعر وهكذا الشعراء، يرفضون زمن المسوخ والتفاهة، وهم الذين يتألمون، سعيا منهم للهروب من كل ما يثقل الروح، فالشعر يعكس شعورا استبطانيا ، وهو صراع تعبيري يبحث عن مفاهيم للحقيقة والوجود والوعي، وهو تكثيف لحالة وجودية غير مألوفة، لأن الشعراء وحدهم من يمتلكون الشجاعة لإنشاد الحرية وامتلاك الذات، إذ يعتبر الشعر درجة عالية من التفكير وذروة للتأمل وكيمياء للذهن ،لأن لغته لا تحتمل سوى البوح الصادق، الذي لا يصدح به الفهم العام واللغو اليومي، وهو ما ارتقى من خلاله مخلص الصغير ليصبح مديرا لبيت الشعر بتطوان، فالشاعر هو الكائن الوحيد الذي يحقق التوازن بين العقل و القلب، وقد يكون هذا ما دفع بأفلاطون، لطرد الشاعر من جمهوريته ، بعدما وصفه بالعلاقة مع الآلهة.
لذلك أهمس في أذن مخلص الصغير وأقول له:
اكتب.. اكتبني.. واكتب نيابة عن كل الذين لا يجيدون هذا الفعل العجيب .
* كاتب مغربي