الكتابة المتشظية والأفق الشعري
قريباً من السّيرة:
يأتي الشاعر علي البزاز من الناصرية المقامُ الساطع بنور العقل قبل القلب، مدينة تهزّ جذع النخل يساقطُ تاريخ حضارة متجذّرة في الذاكرة الإنسانية، مدينة تنام شرقي بغداد، تحمل آثار مدينة أور القديمة. جنوبيّ الهوى،يساريّ في اقتحام المسالك الموغلة في الدّهشة، والإقامة في العزلة الأبدية بعيداً عن سماء العشيرة المظلّلة بالجذَل والرّيح المحمّلة بغبار الجرح العراقيّ، هو القادم المثقلُ بجبالٍ من قلقٍ وتوتّرٍ وأرقٍ، يبايعه الارتياب والسؤال والترحالُ. المضاء بليْل العبارة التي لم تسعفه في القبض على حياةٍ منفلتة، ليظلّ منذوراً لنداء الكهوف والمغاور الباطنية التي في أَمَسِّ اليقين إلى المعاشرة المصغية لحفيف الذات المثخنة بالدّم والأنقاض والنسيان. ومن هوية بابلية وآشورية يعلن هذا الكائن في اللامكان والمفقود في المكان، المُدْنَفُ بمتاهات الأدغال حيث السّؤال حجّةُ المرتاب، وهو المشّاءُ المربكُ للأغوار السّحيقة، المحيّر لمسالك مُدجّجة بالجلبة، حيث الآلهة ترتّب له طريقاً معبّدة بالمجهول. علي البزّاز المقيم في اللانهائي، رفيق الحيرة الشعرية، مؤمن بعقيدة الانزواء في الزوايا الحادّة من الكون، أساريره سِفْر أسرار ومسرّات ومسارات في الكتابة والحياة، يكتب نصّاً مشرَعاً على المُعْتِ والغامض، مُفعماً بالتّرحالِ والتّيه والغضب الهادئ.
(1)كِتابَةُ الذّاتِ وَسُؤَالُ الْوَاقِعِ: التّقَاطُعاتُ الْمُحْتَمَلَةُ
يخلُق الشاعر وجوده الشعري باللغة باعتبارها الوسيلة المعبّرة عن خوالج النفس وانفعالاتها الباطنية، لذا فالسعي إلى تجديد اللغة وإعادة الحيوية لنسغها بغية تقديم الذات والعالَم في صور تخرِقُ الانعكاس المرآوي رهانٌ لبناء متخيّلٍ شعريٍّ «يصدر عن تجربة فردية فيشعّ الحسّ الجماليّ والحيويّ» (1)ويُكسبُ النصّ الشعريّ التجدّد والديمومة الجمالية. وهذا يستدعي أوّلاً المعرفة بالذات كنسق اجتماعيّ وحضاريّ، ثقافي وتجربة في كتابة الحياة وفي حياة الكتابة، فالمعرفة بأمدائها وامتداداتها تعينُ على هَتْكِ سرائرها ورفع الحجب عن أسرارها وأغوارها لإضاءة كونها الداخلي، وثانيّاً الوعي بالواقع بمفارقاته وتناقضاته. فالمعرفة بالذات والوعي بالواقع يسهمان في إنتاج الخطاب. والخطاب الشعري تعبير انزياحيٌّ عن الواقع المعطى بمعنى آخر أن الشعر عبورٌ من المعنى المباشر إلى المعنى الإيحائي مما يحدثُ تحوّلاً دلاليّا، ويخلّف أثراً جماليّاً. فهذا العبور من المعنى إلى معنى المعنى في تصوّر الجرجاني أمرٌ يتطلّبُ تفعيل الذخائر المعرفية انسجاماً مع السياق واستلهاما للآليات القرائية التي بمُكنتها الكشف عن” صيرورة التجريب، وفاعلية التحوّل، وشهوة الخَلْق والتجديد، وبه فالشعر اليوم غيره أمسٍ، وغيره غداً أو بعد غدٍ، وإن ظلّ الشعر في كلّ تقلباته وتحوّلاته محتفظاً بنواته النووية المائزة، له أغياره الفنية الأخرى”. وفي ضوء ما سلف، فإنّ تجربة الشاعر علي البزاز الشعرية تستجيب لهذا الرهان التحوّلي والمغاير، لانفلاتها من القواعد والضوابط الوزنية من حافّةٍ، ولانفتاحها على أفق كتابة شعرية متخفّفة من السرديات الكبرى ومنتجة لخطاب شعريّ يخاطب الإنسان في إنسانيته من حافّةٍ أخرى، لأن الشعر ليس «إلا إبداعاً إنسانيّاً يمثل أداة الإنسان لفهم العالم ورؤية الواقع؛ لأن كلّ عملية خلْق وكلّ فعْل بشريّ إنّما ينطوي حتماً على عملية إضفاء للمعنى على ما كان في الأصل خلُوّاً من كلّ معنى»، فالبحثُ عن المعنى المفتقد في عالم اللامعنى، وأمام واقعٍ التشظّي كان حافزاً للشاعر على الحفْر في مناطق الذات المجهولة والمُعتمة ليعلو صوت الكوامن والسرائر في كينونة ذاتية متوتّرة للتعبير عن أسئلتها الملتهبة بالمكابدات يقول:( ها أنذا أكابدُ متعة الإفصاح عن يفاعتي معتبرا هذا / معارك ناصية لا يجوز التبجّح بانتصاراتها/ أعتبر السيوف همهمات ربما إشاعات أيضاً/ لم أمسك يوما بدفّتي/ نكوصي ممسك بها/ جاهدتُ أن تكتنف أيامي بموائد وجلّاسٍ / ولكن/ كيف تهرّأ مقبض حياتي /وأضحى هكذا/ خرقة لا توترها الأيدي؟/ حياتي الباحة المطوية إلى ركبتيها/ تخمة صعودي قد جزّها شغفي المتعمّد بالهشيم وتحديقي الأملس إلى القعر/ افتتاني الخشن بمرايا خشنة/ كيف نامت مراكبي على قفاها ؟/ أنا بؤرة حنين يتشقق زمامها…). فالشعور بالكارثة حوّل الذات إلى بؤرة حنين تدليلا على المكابدة والمجاهدة، مما زاد من درامية الموقف تجسيداً للتمزّق الوجودي ومحنة السّفر الجواني في عوالم شعرية مضطربة ومتوتّرة «تتخذ البنية الدرامية مجالاً حيويّا لتشكيل مداها وتحويل المنظومة المعرفية التي يزجّها في متن المادة الشعرية التي تصبح بنية فنّية جديدة، يدفعها إلى مخيّلة السرد الدرامي للذات والموضوع والتاريخ الذي يحوّل أحداثه إلى مرآة يحاكم فيها سيرورة وجوده». فالشاعر البزّاز يقوم بمحاكمة الذات في وجودها وقلقها، في صراعها مع الانتصار المحتمل والخيبة الحقيقة، ويصوغ العالَم الممكن بإيقاعية سردية متماهية مع انسيابية الذات وهي تكشف عن مستودع أسرارها بواسطة الحكي للتعبير عن هشاشة الذات والوجود « بإعادة صياغته جماليّاً حتى يتطهّر» . من واقع اللامعنى وانهيار القيم يقول:( شللٌ يتنزّهُ، عرينٌ يخلو/ من الرأفة، سطوٌ علنيّ على الإخلاص لا يعطش/ لصوصُه، دهشة لا تتخثر كأنها عبوة… ).فالشاعر يستثمر الرموز ليمنح حياة جديدة لكائناته الشعرية لتبئير القلق الوجودي لذات تجابه الانكسار وتبدّد الأحلام، وهي آليات أسلوبية تُبدِع « الأفق الذي تتفتّح معه الرؤية وحضور الأشياء كأشياء. أو قل حوار الفكر لتجربة الشعر مع اللغة، يجعله يتذكّر أنه باللغة ينبثق الموجود وينكشف الحضور». يقول الشاعر: (أيها السطح ضع العمق شرطا يسطع، أيها العمق أنكِرْ ملاحة عقيمة وشد الرّحال إلى ريّاح نادرة…) . فالملفوظ الشعريّ يضع المتلقي أمام كتابة شعرية معجونة بخميرة الفكر، حيث المكابدة والمجاهدة من تجليات سلطته، فالشاعر يسند صفاتٍ إنسانيةً على محمول استعاري داخل النسق النصيّ على الأشياء المعنوية المجرّدة والمادية الحيّة والجامدة بمعنى «تصور الحياة في مالا حياة له»، مما يثوّر المعنى ويوسّع الدلالة، ويبرزُ أن التفكير في العمق هو جوهر العقل الإنساني، والذهاب بعيدا في سفَر محاط بالمغامرة إلى جغرافيات في الذات والوجود تظلّ في حكم المجهول.
(2) الثّنائِيّاتُ الضديَةُ
وهَشَاشَةُ الْكَائِنِ:
تحضر ثنائية الظاهر والباطن والحضور والغياب، التذكّر والنسيان ثم الموت والحياة على مستوى الخطاب الشعري للشاعر، للكشف عمّا يجيش من صراع وتوتّر داخل الذاكرة وفي الأعماق الملتبسة، وتجسيدٌ للمجازفة والمخاطرة التي راهن عليها الشاعر للسير في الطرق الوعرة غير المسلوكة في الكتابة الشعرية، ذلك أن علي البزاز لا يعتبر الكتابة « ليست مجرّد وسيلة تعبير وتمثيل أو نقل، وإنّما هي مستودع لحفظ المعاني ضدّ فعل الزّمن وعبث التاريخ وضدّ النسيان»، بل آلية للتفكير الجماليّ في الكائن والكون بوعيّ يمنح للوجود الإنساني القدرة على مقاومة الهشاشة يقول: (…لو أصمّمه على شكل أريكة ذات مساند وقاية وفيّة للصحّة حينئذ سأصرخُ بناري إيّاكِ والاشتعال، لأن الزمن قد ناصبكِ الانطفاء، خذي من الكرسي قوائمه خذي مكر الإدبار عند الحروب. بئرٌ يُسمع فيها صوت المياه الخاوية. ينبت لمعاركي زغبٌ هو ليس ريشاً ولكنه يشبه الممنوع، كما أني لا أجيد التعرّف إلى القتلى…).إن الشاعر البزاز يحوك على منول المفارقات اللغوية خطاباً شعريّاً منسوجا بإبرة الألم الداخلي حيث الضوء والعتمة سمة جامعة مانعة للمتواليات الضدية المهيمنة في المقطع (الاشتعال/ الانطفاء – بئر/ المياه الخاوية..) مما يعكس أن الذات متعدّدة في وجعها الوجودي. فالكتابة بالألم والكتابة على الألم تعبيرٌ عن انتفاء تجربة الكتابة ولافائدة منها. غير أن الكتابة عن الألم ذات أبعاد ودلالات غير منتهية. هذه المقاطع الشعرية المجتزأة من نصوص مختلفة («ستعلن المصابيح قدومها غير آبهة بتجمّع الظلام»/ «هذا الطفل من القول يتيمُ التأييد» / «هو اللحد كأنه فجر دائم أو اتهام الحياة على تقصيرها»/ «يصونها الأموات ويخونها الأحياء تلك هي قوانين حفظ الإرث ثديٌ مدنّس هي البلاد كاهنٌ اشتياقي إليها»ص ). تبرزُ رؤية تتراوح بين الإيجاب والسلب، وتقدّمُ صورة واضحة عن الصراع الدّخلي معبّراً عن محنة وجودية لذاتٍ متشظّيةٍ . وبهذه الثنائيات الضّدية تعلن الذات كينونتها وتشكّل ماهيتها من وعيٍّ شقيٍّ وتفكيرٍ عميق في الذات والعالَم.
(3) مغامرة الذات
ودرامِية الترحال:
المعرفةُ بالذّاتِ تحرّض على التّرحال في الأدغال الباطنية للانفلات من عالَم زائل في ظاهريته إلى عالَم أبديّ في باطنيته؛ والتجرّد من الآني والعابر سعيّا نحو الإقامة في الأعالي حيث الذات ترتقي معارج الصحو المريب يقول: (الجماعة عرسٌ مريحٌ والتّوحّدُ وصولٌ شاقّ…)،فالعمق يتولّدُ من المعرفة الفلسفية التي تقلب الأجوبة أسئلة تربك الكائن الخاملَ وتحدث الفتنة والدهشة الصاعقة، لأن بلوغ التوحد/ العزلة/ أخذ المسافة/ اختيار الزاوية الحادة للرؤية/ الشعور بالفرادة يستدعي الجهد والمثابرة وارتياد الصّعاب، ولعلّ هذا ما يرمي إليه الملفوظ الشعري السالف، ف» البعيد، في الشعر، ليس مسافة مكانية، إنّهُ توتّر حادّ مع اللغة، توتّرٌ يفضي إلى التوغّل فيها قبل التوغّل بها نحو ملامسة ما ليس له صورة محدّدة، وما ليس له صورة محدّدة هو أحد تجلّيات الغامض».وقد أطلقنا على هذا النمط الكتابي بالكتابة الغورية التي تسبرُ الأعماق القصية للذات والتأمّل في مكامن الوجود المبهمة. وهي كتابة بلا ضفافٍ ترتضي العمق والمجهول، لهذا نجد الشاعر البزّاز يقتحم مجاهل الذات وغوامضها ومغالقها ومضائق الوجود متدبّراً ومُستغوِراً العوالم المعتمة في الكائن والكون يقول:
(متى تغمر الليل بالساحل المضيء؟/تسأل/ امرأة أتعبها جمع الضفاف من دون فائدة/ قل أيها الحريق أنجز ذلك اللهب/ أقضم أسراب المواساة /عندها/سوف تجد انخفاضك الذي لا يذود عن سعي الآبار …).لنتأمل هذه الصور المتواترة في سيل لغويّ منهمر من ذاكرة مشحونة بصراع داخليّ حيث العذابات الفكرية والوجودية تجسّد حالة الرغبة في الكشف عن السرائر الدفينة، فالذات تبئر العبث الزمني والمكاني واللاجدوى في بؤرة استفهامية إنكارية تُدين العالَم بخطاب الوجدان لتوليد فاعلية جمالية تمارس لعبة الإغواء والإغراء على القارئ للإسهام في إنتاج المعنى فهو « لا يحتاج إلى المرور عبر معاناة الشاعر؛ ليستوعب هناءة الحديث الذي يقدّمه له الشاعر – هناءة تسيطر على المأساة ذاتها. إن التسامي في الشعر يعلو فوق سايكولوجية الروح الشقّية؛ وذلك لأنها حقيقة لا يمكن إنكارها أن الشعر يمتلك هناءته الخالصة مهما كان حجم المأساة التي صوّرها». وفي هذا السياق فالذات، وهي في هناءة الشعر الخالصة، تعرج إلى مقام التسامي مادام العقل متصالحاً مع أخطائه وجرائره ومتجرّداً من وعيها الشّقيّ يقول:(متسامحٌ عقلي حتى مع الأخطاء مللت صوابه، مللت أوكاره تلوذ فيها أوكار الفقدان، لو يصير نساء تسلية. وفاء خائن يتبضع / فيه آه ليت عقلي لوازم بيتية آه لو يضيء أفكار الثعالب…) فالتحقّق الشعريّ يتمّبواسطة آلية التشخيص بإسناد صفات وأفعال إنسانية للمجرد وتشييء العقل من تشييء الذات المتشظّية بعلّة القلق الوجودي، مُجسّداً بذلك مشكلة الإنسان أو إشكاليته الأزلية وقلقه على مصيره.وعلى ذات التصور ينسج الشاعر مشهديات نصية تعتمد التشخيص أيضا يقول: ( حتى حجارتي تتجرّع الطريق المعبّدة بالمجهول شاهدة دوام/ السرور دوام المكان، حجارة أناقة عافية، أفواه جيّاشة ذكرياتها. حجارة تسكّ عملاتٍ غير نقدية…)، فالصور ذات البعد المشهدي لها حضور لافتٌ في بنية الخطاب، من خلال التوظيف الجمالي لما هو بصري في التقاط ما يعتمل في دواخل الشاعر من تقلبات شعورية والتضارب القائم بين الحضور والغياب، الألم والأمل، الإقامة في المنافي والرغبة في اقتراف جنحة النسيان، الحلم المنذور للندم يقول: (دعنا أيها الندم الغفور يا قدره/ النسيان على علاج التذكّر نكدٌ يُلمّع الحرّ لما يشتدّ زمهرير الخضوع. أتصور هذه المكاشفة تجوع ثم تعوي لذا/ أدعها تعبرني بما يتيسر لها من قنص قد حسبت يوما برهانه ذئبا في هديل موافقتي …)
هناك التماس مبطّنٌ من الشاعر للندم أن يكون رحيما به، مادام النسيان نكداً والمكاشفة جائعة تعبيراً عن جدلية الذات والواقع، حيث الصراع الداخلي قائم ومجسّد له بلغة تضيء عتمات الذات، وتكشف واقعاً أكثر عبثاً، وهذا الاحتمال الدلالي القائم على استحضار النسيان والمكاشفة والعبور ما هو إلا انتساب إلى محنة وجودية تزيد الذات إصراراً على مراودة المجهول فيها وفي واقع ملتبس ومثيرلأسئلة الكتابة وهي تلامس المنفلت والغامض. فالذات في مغامرتها تبحث عمّا يخفّف من غنائيتها مما أضفى على الخطاب الشعري أبعاداً درامية تعبّر عن مواقف الشاعر من قضايا وجودية ويصدق عليه ماقاله صلاح عبد الصبور : «لست شاعرا حزينا، ولكنّي شاعر متألّم، وذلك لأن الكون لا يعجبن، ولأني أحمل في جوانحي. كما قال شللي شهوة لإصلاح العالَم».
محكِي الهوية الْمُتَشَظيةِ
وَالْأُفُق الشِّعْرِي:
يمكن اعتبار هذا الديوان محكيّا لهوية الذات المتشظّية، إذ تمكّن الشاعر من تصفية الحساب مع تاريخ الذات الموجع والنازف لأسئلة حارقة حول كينونة مهدّدة في وجودها، بفعل عوامل تاريخية أدّت بهجرة الشاعر فضاء الناصرية حاملاً معه ذاكرة الطفولة والشباب الجريحة والمجهضة الظلال والمعتلة اليقين يقول:
( أرضي خالية مزدحمة بالضيوف، حمام يكره طيران العلف/ هي خطواتي الخالية من النصيحة مأهولة بإنجاب وحل) ، ملفوظٌ شعريٌّ يعيد تشييد هوية سردية منبثقة من النسيج النصي ومبصومة بالإحساس بالفراغ الوجود، فالعبث واللاجدوى صفات موضوعاتية غالبة على خطابها الذي يعبّر عن رؤية كارثية درامية فجائعية يسندها قول الشاعر في مشهدية سردية بلغة انزياحية تخترف المألوف في التركيب والدلالة: «تلك طفولته: في مدينة حاسر عناقها/ كالشال/ تتخيل الأزقة خطواته وهي تسير عليها/ وتبقيه ملوّن الحرمان/طفولة ناصية بمستوى الشبابيك/ تكتظّ بالأعمدة/اتكأت طويلاً في أثناء نومها».
لنقل إن الشاعر يقدّم طفولته/ سيرته/ ذاكرته/ وجوده في صورٍ شعرية يغلب عليها الطابع الرمزي الإيحائي الموغل في المكابدة والحرمان مما يحوّل الفضاء المديني إلى فضاء للإحساس بالتشظّي والتمزّق، ليسقطنا في وهم المرجع الذي نعتبره تكيّة لإيهامنا بحقيقة الملفوظ، وهنا مكمن جمالية الشعر ودهشته. وفي سردية شعرية أخاذة ينقلنا الشاعر إلى عوالم حكائية يقول: (كان يعيد ترتيب النهر ليضمن سلامة مجراه/ بينما الساقية حجر بلّلها/يقيل الصوت من المنحنى/ والوتر من ثلمة الكمان يعيره السنبلة فيزدهي الناي/ يالها من سماوات تستعيض عن وخزها/ بالوسادة / كان يلمّ المساء قافلة تؤاخي الدروب، وتعادي جميع الظلام/ أيها القلم/ حالما تتقوّس/ هو ذاتك سيعينك…)
ينفتح هذا المقطع الشعري على تفاصيل الحياة حيث صوت الراوي يشكّل قناعا لإخفاء الذات وتواريها خلف سردية شعرية عمادها الرمز والإشارات والعلامات اللغوية التي تبرز صورة الاغتراب لتأزيم الهوية وجعلها أكثر ترحالاً في مهاوي الحلم والتيه والضياع كمعجم لغوي ناضحٍ بالألم الوجودي. فالظاهرة السردية تشرَع أفقاً شعريّا منفتحاً على السرد.
عَوْدٌ عَلَى بَدْءٍ:
إن العودة إلى المتن الشعريّ يُجلي اشتغال الشاعر علي البزّاز بوعي إبداعيّ قوامهُ الذات لتشييد خطابٍ شعريّ له رؤية شعرية عميقة لكتابة شعرية لها احتمالاتها الجمالية والفنية ومحتفية بتفاصيل الحياة ومستلهمة السرد مقوماً جماليّاً يسهم في التشكيل الفنّي وفي الأبعاد الدلالية المتعدّدة. أي أنها تجربة شعرية قريبة من نبض الذات وارتجاجات الواقع، تجربة تنتمي إلى سيرة الذات وإلى الحاضر بتفاصيله وتحولاته وإضافاته، ثم للمستقبل كرهان آخر لكتابة مغايرة ومغامرة تنسج وجودها الجمالي من نسغ الذات والحياة وامتداداتها.