قراءة في ديوان «تتمنع عني العبارة» للشاعرة أمينة الأزهر .. «ما وراء اللسان»: الوجودُ جرح والشاهدُ عبارةٌ

ترمي الشاعرة أمينة الأزهر في طريقنا «عبارة» زاخرة بالدلالة، وبالقناع أيضا. أليس القناع هو عمق الدلالة؟ ألا تحب الحقيقة القناع، كما يقول سقراط؟
«تتمنع عني العبارة»، عنوان يتقدم من فكرة الديوان بفيض من الإحالات الشعرية والشعورية والفكرية، غير أن الإحالة، هنا، تقويض، إذ لا خير في عبارة تنحاز عن التقويض وتتمنع عنه. فما الذي يقبع خلف العبارة؟
يمكننا أن نفكر في تسوية التقابل التي عقدها أحمد المجاطي بقوله: «تسعفني الكأس/ ولا تسعفني العبارة/ لكني أقول/ شربت كأسي فاشربي/ أيتها البحار». سيكون من العسير ألا نتصور الكأس نسيانا. الكأس هي النموذج المثالي للتعويض عن التشوّه الذي يعتري اللسان.
يمكننا أن نفكر، أيضا، في ما قاله محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري: «الق العبارة وراء ظهرك، والق المعنى وراء العبارة، والق الوجد وراء المعنى، وادخل إلى وحدك ترني وحدي»؛ وفي قوله: «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»؛ وفي قوله: «العبارة ميلٌ، فإذا شهدت مالا يتغير لم تمل». اتساع الرؤية هو ما يصنع نسقا لضيق العبارة، هو ما يبرر فساد اللسان. الكلام غير مجد أمام التجلي (الحقيقة، الألم، العدم). ولهذا علينا أن نتحمل قصور العبارة، لأنها لن تصمد طويلا أمام أنين أو ارتعاشة. ذلك أنه إذا ظل المعنى محتجبا عن العبارة دلّ على دخول اللسان في تجربة الاصطدام بالاسم، أي الوقوع في تهويم الوجع. أليس هذا ما تهيئنا له الشاعرة في المقطع (1): «كل الخيبات تترصدني/ وحدها ريح روحك/ تحسن مزاجي» (ص: 7).
الريح لا صنعة لها إلا الضَّمّ، لا تعرف الكسر ولا الانكسار، ولا مستقر لها سوى الجريان. الريح هي مجموعة لا نهائية من نقاط الإشعار بالأمان، بينما الروح خفية خارج السكون والاستكانة، ولا خوف عليها من الهبوب أو الانصهار. بها تلوذ الذات، وإليها تنزع وتميل، كما لو أنها تغمس لسانها في المطلق. أليس الشعر تعبيرا عن الجوهر الذي لا تحُدُّه الأمكنة، ولا الأزمنة؟

تقول الشاعرة في المقطع (17):
«عزفٌ باهت
يطفئ بدر العبارة..
هل يشيب الشغف» (ص: 15).

وفي المقطع (49)، نقرأ:
«تضيق بي أرجائي،
أقرأ ضيمي،
وبكل اللهفة
أرتل شقائي» (ص: 31).

أليس هذا ما عبر عنه محيي الدين بن عربي بقوله: «فإني كنت شديد القهر لنفسي في الكلام»؟ بيد أن الترتيل غير الصمت. الترتيل تَرَسُّل في التلاوة وتلحينٌ وتجانسٌ وفصلٌ للحرف من الحرف، بينما الصمت هو ترك الكلام ممن يقدر على الكلام، أو انقطاعه.

إن ما يحرك الذات الشاعرة في هذا الديوان هي «الإشارة دون العبارة». غير أنها إشارة، رغم اختلاف المقاطع، تتكرر باستمرار بالإستناد إلى ما يسميه إزرا باوند «اليأس المفرط في الكمال»؛ هذا اليأس الذي لا يمكن أن نخطئه من ألف الديوان إلى يائه. لنلاحظ مثلا القاموس الذي تتكئ عليه الشاعرة: (الخيبات، الدمع، الشهقات، تصاريف القدر، التعساء، الغبش، الغبن، الشجن، الدجى، الفلق، اليأس، الضباب، الشحوب، الأنين، الوهن، الغصة، الكبوات، العتو، التجاعيد، الضمور.. إلخ). ففي كل مقطع يطل جرح ما، بكل غزارته وكثافته وتعقيداته. الوجودُ جرحٌ، والشاهدُ عبارةٌ. ولما كان الجرح أكبر من العبارة يتراجع الشاهد لصالح الغائب (الكلام). لكن أي كلام؟ إذ هناك تماس عنيد بين العبارة (المتمنعة) والصفصافة (صفصافة البيت العتيق) بوصفها استعارة عن المقاومة في الأماكن الرطبة/ الصعبة، وعن القابلية للنمو في سفوح التلال والتربة الرملية والمستنقعات والغابات. العبارة تتمنع بينما الصفصافة تعبير مجازي عن الارتفاع العنيد. إنه الإحساس بالعلو حين تتعمق المسافة بين الحرف والحرف، وبين الجملة والجملة، وبين السطر والسطر. ولا يتحقق الامتلاء إلا بالخيال. الخيال هو المتكلم الوحيد حين نمتلئ بالصمت. هو الرقيم المخفي. هو الدليل البارز على الحياة:
تقول الشاعرة في المقطع (84):
«على حواشي الدجنة،
مارد الخيال
جسد متوهج بالحياة» (ص: 52).

الدجنة، هنا، تعمق الإحساس بالصمت وتضاعفه، غير أن الكلام يتماهى مع الخيال، بل هو قناعه الذي يتكسر كل صمت على ظلاله المتعددة. الخيال هو التأهيل الشامل للكلام. لا مناص من ركوبه ليتمكن «اللسان الآخر» من فعل شيء ما: الخروج كالعنقاء من الحشرجة. ولن يتحقق الخروج إلا بالاحتداد على الصمت.
تقول الشاعرة في المقطع (86):
«على درب التشوق،
أحمل صمتي
محتدة الخيال» (ص: 53).

الخيال هو هذا اللسان الآخر الذي يكتب الصمت بالكلام دون أن يتورط في قياس الزمان والمكان، لأنه يعمل بكفاءة لا تحتاج إلى لغة، ولا إلى مهارات نحوية وتركيبية، بل إلى دوام الاتقاد؛ دون خيال يتكدس الصمت والكلام في حيز واحد، يتخاطبان ويتدفقان ويتراكمان، ويملآن العبارة بما يحمله الشاهد عن الشاهد. ولما كان الخيال لا يحصر نفسه بأي شكل منظم للغة، فهو فوق الكلام الذي يتجلى فقط من حيث كونه مؤثرا وفاعلا.
إن الصمت الذي تحمله الذات وجومٌ وعمى لسانٍ. لكن السؤال يبقى هو: هل العمى يعني انعدام الرؤية؟ ألا يفضي العمى إلى إضفاء عمق تخييلي على الأشياء؟ اتساع مرمى النظر لدى الأعمى هو ما يحقق الامتلاء التام للرؤية، بكل ما يطمح إليه الرائي. الرؤية هنا أكبر من المرئي بالعين، أو بالحواس. الرؤية تركيب وتشكيل وتدوير وإنتاج، تقع خارج الاتساق. إنها تحريك للصمت الذي يضج بها ويميل.
تقول الشاعرة في المقطع (97):
«رعدة ملتاعة
تهذي بالجراح..
بح صمتي !!!» (ص: 58).

هذا المقطع قريب جدا من قول ابن عربي: «أشهدني الحق بمشهد نور الصمت، وطلوع نجم السَلْبِ، فأخرسني، فما بقي في الكون موضع إلا ارتقم بكلامي، وما سطر كتاب إلا من مادتي وإلقائي» (من كتاب: مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية).
يقدم هذا المقطع رجة قوية في «العبارة»، وينتقل بنا من مستوى العيّ إلى مستوى الاحتداد الكلامي: الصمت المبحوح، الضاج، المتكلم. الدال على فيض الكلام وكثرته واسترساله. الصمت الذي يعني التكلم. يقول ابن عربي «فالعبد صامت بذاته متكلم بالعرض». ومن هنا فالذات تنوء بأثقالها بين حالتين، إحداهما تقتضي الأخرى، وتصارعها بين الوجود والعدم.
الصمت في هذا الديوان أرض عطشى: «غمامة لا تريد أن تضع» (ص: 46). «تيه في التيه/ تشتهيه الروح» (ص: 67). ملح العيون. ليل ينتظر النهار. وعد الصباح. «خضخضة الوحدة في قوس التوهان» (ص: 71).. إلخ.
*************
أخيرا، أتساءل: لماذا اختارت الشاعرة المقطع الثلاثي الأبيات، وهو الغالب، شكلا عاما لنصوص الديوان؟ إننا ندرك دون شك أن قصيدة الهايكو التقليدية تضم ثلاثة أبيات، بالنسق الآتي: (5 مقاطع صوتية في البيت الأول و7 مقاطع في البيت الثاني و5 في البيت الثالث). كما ندرك أن شعراء هايكيست مجددين وضعوا أنساقاً أخرى مختلفة من حيث عدد المقاطع الصوتية في كل بيت شعري مثل: (3 ـ 5 ـ 3/ 2 ـ 3 – 2 .. وما إلى ذلك). كما ندرك أن هايكيست آخرين لجأوا إلى استخدام شكل حر ولا يلتزمون بأي بنية أو شكل.
يتكون الديوان من 158 مقطعا، من بينها 20 مقطعا رباعيا، ومقطعان خُماسيان فقط. ومع ذلك، نستطيع القول إن التوغل في هذا النموذج الشكلي لا يعني قطعا الالتزام بشرطه الوجودي، ولا بالتزاماته النوعية: (الرؤية الآنية، الوقع الوَمضِيِّ، اللمحة الفكاهية). لم يخلف معلم الهايكو الأكبر، ماتسو باشو، للاحقين هذا التعريف الغريب: «الهايكو هو ببساطة ما يحْدُث في هذا المكان، في هذه اللحظة».
إن ما نقرؤه في ديوان «تتمنع عني العبارة» يبقى مجرد تنويع شكلي لا ينهض على النموذج التقليدي للهايكو، ولا أظن أنها الشاعرة تدعي ذلك. هذا الاختيار ليس سهلا، لأن الاقتضاب كشكل من أشكال التوليف الشعري يعني في العمق «الاستسلام لإغراء الصعوبة». التقطيع الثلاثي بنية مهيمنة وثابتة في الديوان، مما يعني أن المعنى منحاز إلى الصمت ويميل إليه.
ضيق العبارة هو ما يحكم هذا الديوان. بيد أنه ضيق يترجم زخم الكلام الذي يتحرك في أكثر اتجاه. كثافة الحزن وقتامته، ثم ديناميكية الصورة التي تتكئ على قدر كبير من النزعة «الميلونكولية»، مما يمنح المقاطع الشعرية كثافة ذات خلفية سيكولوجية ممتلئة. ومن هنا، يأتي «الصمت الضاج» في أكثر صوره دلالة. كما تطفو العبارة المملوءة عن آخرها بالكلام على السطح. ولذلك أمكن القول إن العبارة لا تحتمل التلفيق، خاصة إذا كانت تؤسس جسديتها على العلاقة بين الصمت والكلام.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 06/12/2024