قراءة في ديوان « ثلاثة ارباع قلب» للشاعرة سعاد بازي المرابط

 

البوح الطاهر في زمن الصمت والتشظّ

 

إن أول ما يثير اهتمام أو شهية القارئ لأي منجز إبداعي كيفما كان جنسه هو غلافه وعنوانه، باعتبارهما العتبة الأولى، التي قد تثير فضول القارئ لاكتشاف أغواره و مسببات اختيار الصورة أو اللوحة و كذا الألوان التي تؤثث فضاءه الخارجي، من هنا يمكن القول أن ديوان « ثلاثة أرباع قلب « للشاعرة سعاد بازي المرابط، قد شكل هذا المعطى كونه غلاف يحمل قراءة مسبقة تمكننا من العبور لمكوناته و مضمونه، من خلال اللوحة التشكيلية التي أبدعتها يد الفنانة أمامة سحر، لوحة عاشقين ينتشيان بالسعادة خلال لحظة لقاء، بعيدا عن الأنظار، لوحة تمثل بمفردها نصا بصريا بمثابة حوار يختزل رؤية لغوية مجازية مكثفة ودلالة بصرية تشكيلية تتقاطع في رسمها وتشكيلها، تحيلنا على الفهم القبلي لفحوى و مضمون الديوان، الذي اختارت الشاعرة « ثلاثة أرباع قلب « كعنوان له، متخذة من القلب كمنطلق ورمز له عدة دلالات فكلمة قلب مشتقة من قَلَبَ أي حوَّل الشيء عن وجههن فهو منقلِب و متقلِب و سُمي القلب قلبا لتقلبه من ظرف إلى آخر بين سعادة و حزن و إيجاب و سلب و لذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم « سبحان مقلب القلوب « كما له ارتباط بالحب و السعادة، و غالبا ما يربط بالعواطف و الأحاسيس التي تعتلي طرفا اتجاه طرف آخر، و هنا أضافت الشاعرة إليه إليه « ثلاثة أرباع» أي أن هذا الارتباط بالسعادة و الإقبال على الحياة غير مكتمل، مما يضفي عليه الحزن و الحسرة و الأنين. فهي صرخة حينما تتشظّى الذات ما بين الحب و الحلم و الوحدة و اللامبالاة و العزة و الغضب و الفرح و الحزن، من خلال البوح الطاهر في زمن الصمت و الاستكانة، نافضة الغبار عما يخالجها، رافضة صورة الواقع التي تئن منها الذات الحالمة، المحملة بمحنها و همومها و هموم الوطن.
يتبين في ديوان الشاعرة سعاد بازي لمرابط « ثلاثة أرباع قلب» الذي يضم تسعة و ثلاثين قصيدة، مشكلة سمفونية عشق على أوتار قلب جريح، قصائد تتوحد من خلال تجلياتٍ وجدانية، عفوية و صادقة، ممزوجة بالشجن و الأسى و الحسرة، كما أنها تخفي بين سطورها رؤيا تفاؤلية للمستقبل رغم تواشيح الألم التي تؤثث ألفاظها و تعابيرها الضمنية، الأمر الذي يجعلنا نعتبر هذا الديوان من صنف السهل الممتنع، فرغم سلاسة ووضوح الألفاظ والمفردات نجد أن الشاعرة قد اعتمدت على البُعد البلاغي والترميزي العميق وما فيهما من إشارات ودلالات وجدانية وسيكولوجية و نفسية واجتماعية ووطنية عميقة، خالقة بذلك حالة من التفرد لقدرتها على بناء قصيدتها انطلاقا من قراءتها لذاتها أولا، لتتجاوز حدود تلك الذات فيما بعد و تنصهر في الآخر بما فيه المكان « الوطن، المدينة، مسقط الرأس» كهوية و انتماء، مسخرة خيالها في رسم الصور الفنية للبنية الشعرية، و كأنما تريد بهذا التفرد و التميز أن تقول لنا، أنها سارت على نهج ما جاء على لسان « أدونيس « « إذا كنت تريد تقليد شاعر ما، فقلد شاعرا لم يولد بعد».
لقد اتسمت قصائد الديوان بالوجدانية المرهفة التي اعتمدت فيها الشاعرة على معجم يزخر بكم هائل من المشاعر الفياضة و المتوهجة التي تكتنف الشاعرة كعاشقة و كمعشوقة، حيث نجدها حينا شعلة حب « سأراوح بين الافصاح و الصمت
بانتظار قصيدة تفتن حروفي
تفتح أرضا أخرى بقلبي
كفتوحات ابن زياد « ص24
و حينا شظية تتلظى شوقا و عتابا و لوما،
« لن أعود لسجني
سأعيش الحياة
كنت قبلها مت أو كأني « ص40، «
« توارت الغيرة
منذ الإعلان عن حبك
من تضاهي/ ذات البسمة
الأميرة/ المدللة؟ « ص75
و حينا تسبح في بحر من الأحلام، ممسكة بقلبها كي لا يضيع من بين ضلوعه، و هي المنتشية بدموع ثلاثة أرباع قلبها،
« تتبضع حلما أراك فيه
مرابضا فوق صخرة الصبر
بانتظار عودتي من رحلة الحياة» ص44
نلاحظ من خلاله استخدام ترميز بعيد وعميق الإشارة والدلالة الوجدانية ، الظاهر في سردها الشعري و هو ما يتضح شيئا فشيئا في قصيدتها (تلك هي ساعتي) حين تقول:
( إنها الواحدة ذعرا
همست بأذنها أن تتريث
احمرت التواني
شربت نبيذ همسي )
هو خطاب من العاشقة للساعة بالتريث حتى لا تستفيق مما هي فيه من عشق و أحلام جميلة، ألفاظ واضحة ذات أبعاد رمزية بليغة، أو حين تقول في قصيدتها ( ثلاثة أرباع قلب )،
( لأنك لم تمسك خيط البداية
سيبقى الربع مواريا
أكسر به ظهر الملل بهذه الحكاية
من يدري؟
فد تعود من جديد )
حيث يبقى التشبث بالأمل و استكمال ذاك الحب الذي يبقى ربعه غير المكتمل من قبل المعشوق معلقا لحين، وفق دلالات تنم عن تملك الشاعرة لناصية اللغة الشعرية التي تمتاز بالإيجاز والتركيز والتكثيف والرمزية المحببة، و كذا على تمكنها من الاطلاع على تجارب الآخرين، لتعيد تصويرها بطريقة شعرية مثيرة و جذابة لما تحتويه من عواطف تجمع بين الخيال و الحقيقة.
و بقراءة سريعة لبعض قصائد الديوان نتوقف عند قصيدة « قبل عتبة الذكريات» التي لخصت فيها الشاعرة أن التعلق بالحب و التشبث به قد يتحول الألم و الألفة مؤامرة و اختيار فك الوصال خير سبيل، للحد من الألم، قبل تشييد قصور من الأحلام قد تتهاوى في أي لحظة صمت،
( ماذا لو افترقنا قبل الذكريات بقليل؟
كم قلت له
ماذا لو أحبطنا مؤامرة الألفة
ماذا لو جعلنا كيد الأشواق في نحرها
لنبتعد ألف ميل عن الألم .. )
و في قصيدة « بانتظار قصيدة متمردة» تستحضر الشاعرة الحس الأنثوي المترع بالأحاسيس النابعة من قلب متشدق لحنو الحبيب و تغزله الذي يحيي ذات المرأة و يشعرها بوجودها، من خلال كلمات صادقة خارجة من سويداء القلب إلى القلب
( أنا بانتظار قصيدة لجوجة
تجعل نسبة الجدل تربو
تجعل نسبة الشغب تطفو
سأراوح بين الإفصاح و الصمت
بانتظار قصيدة تفتن حروفي
تفتح أرضا أخرى بقلبي
كفتوحات ابن زياد )
أما قصيدة « أقاتلة أنا « فتبقى علامة فارقة في ديوان الشاعرة سعاد بازي لمرابط كونها تتغنى بحالة فريدة في العشق لما تحويه من حب و و عشق و شجن و دفء للأحاسيس، بصور بلاغية متراصة و مترابطة، و هنا تقول لنا سعاد بأن عندما تعبر عن حبها و عواطفها فتكون أكثر رقة و جمالا من عواطف الرجل التي تكون أكثر قوة و جلالا،
( أعدوا لك نعشا/ وقالوا عني قاتلة
أقاتلة أنا ؟
أم أن روحك التي غفت
بقصر روحي أبت أن تصحو
بهودج زفت مع الملائمة..)
في حين نلمس في قصيدتها « ولا أكتب إلا لك» الصورة الجميلة لحب الوطن الذي يبقى أقوى حب باعتباره الهوية و الأمان، فهو أيضا قطعة من القلب، كالحبيب،
( أن تسألني لمن أكتب
معناه أنك تنتزعني من وطني
من هويتي
من كينونتي
منك/ فلا تسألني
لأني لا أكتب إلا لك, )
لقد استطاعت الشاعرة إبهار المتلقي وشده لقصائدها، مستعملة جملة من الوسائل في تحقيق غايتها، من أهمها وسيلة الانزياح كظاهرة مهمة في الدراسات الأسلوبية التي تقارب النص الأدبي عموما، والنص الشعري على وجه الخصوص، باعتبار أن النص الشعري كما هو متعارف عليه يتميز بالخروج عن المألوف، كما يقول محيي الدين محمد « إن الصورة الفنية ضرورة شعرية كما هو الخط بالنسبة للرسام،،، فكل الأحداث و الأفكار و الرؤى و الأحلام تتحول إلى جملة من الصور الفنية الدالة أو الرامزة أو المشبه بها .. « من هنا نجد أن قصائد سعاد بازي التي تولدت حروفها بعد مخاض و صراع داخلي و تنوعت مدلولاتها الكاشفة عن خبايا نفسية كانت مختزنة لحين هذه اللحظة، لحظة بوح محشوة بروائع المتن اللغوي و عذوبته التي تجعل القارئ يغوص في لحظات القراءة الماتعة التي تشي بالشعرية الجذابة و المتوهجة من خلال روعة الانزياح الدلالي و عمق التكثيف اللفظي و اللغوي من قبيل « صهوة التمرد – رقبة الفرح – ألوان الغضب – حديقة الذاكرة – كؤوس الحب – شماعة الظلام – أبواب الإعصار – قضبان الأمل .. « حيث أن هذه الانزياحات تميل بقوة نحو سيميائية التجدد و الانتماء و دفء الحياة في ظل الحب و الأمل، تحاول من خلالها جذب القارئ و إخراجه من قوقعة الرتابة التي يعيش فيها بملامسة حرفية عذبة و صورة شعرية جميلة من شاعرة مقتدرة و متمكنة بأدواتها الشعرية و الفنية و توظيفها في بناء لوحات قصائدية جمعت بين الاستعارة و التشبيه و الترميز، كما هو الحال حين توظيفها لمجموعة من العبارات الدالة على العشق في أسمى تجلياته « على بلاط قلبي – ملتهب كالنار – مواسم اللوعة – أوداج الحب – فتيل الحب – حقول اللهب – معطلين عن الحب .. « .
ختاما يمكن القول أن سعاد بازي المرابط شاعرة تمتاز بالهدوء و رزانة الحس الوجداني، استطاعت غزو عالم الشعر بكل طواعية من خلال نصوصها النثرية التي جمعتها في ديوانها هذا، والتي تستحق الإشادة و الاعتراف على كونها قصائد تتميز بخصائص فنية فريدة، تتجلى في وحدة الموضوع وتنويعاته وتكامل بنائه العضوي والفني، كما تستحق القراءة و التفحص لما تحمله من جماليات و دلالات نابعة من القلب مما جعلها تتجاوز الصنعة الشعرية و بلوغها مرتبة الصدق العاطفي و العشق الشاعري.


الكاتب : محمد الصفى

  

بتاريخ : 04/02/2023