إن أي قراءة للنص الشعري لا تبدو أهميتها إلا بالنظر لطبيعته التخييلية، فهي تتيح إمكانيات القبض على الاحتمالات الدلالية، مما يدخل القارئ في خضم البحث عن مداخل تكون سبيلا إلى تأويل متجانس يقصي إمكانيات دلالية أخرى، على اعتبار أن هناك دائما وجود أكثر من طريقة لتحليل النص الشعري والذي تظل بنيته خاصية تتحكم فيها ذات الشاعرة، وتتيح للقارئ مجالا يتحرك فيه ضمن تصور تأويلي يتبناه انطلاقا من هذه الخاصية والفصل في عناصرها والبحث عن توازن يقطع به مراحل من التنقل بين منظورات النص وأفعال الإدراك، وتوجيه مسار القراءة والكشف عن مقاصده.
قبل تناول نصوص ديوان “سأعبر جسر القصيدة” تصادفنا عتبة العنوان، والذي يشد الانتباه كونه علامة دالة تنفتح على مجالات القراءة التأويلية لما يملكه من سلطة الإغراء والإيحاء ولاختزاله زخما من المعاني والدلالات التي تحمل بعدا تكثيفيا ، كونه ملفوظا لغويا وعلامة نصية سيميائية ناطقة ومعبرة.
والعنوان الذي اختارته الشاعرة سعاد بازي المرابط “سأعبر جسر القصيدة” يحيل مباشرة إلى اختيار نقدي تتبناه بخصوص الكتابة الشعرية يحيل إلى موقفها تجاه الرداءة التي أصابت جسم القصيدة الشعرية داخل مشهد ثقافي متسم بالعشوائية:
ها قد كتب الشعراء كل شيء
النصوص الضعيفة الآن تخجل
لأنها كعباد الشمس
أينما مال النور تميل
تخجل
لأنها تجهل نطف الضوء
وبلغة حادة تعبر عن مذهبها في الكتابة الشعرية وسط رتابة أضحت صوتا مفروضا:
سأعبر جسر القصيدة
سأتسلق سنامها إسوة بالمتسلقين
لا غرابة أن يرعى الحمل مع الأسد
الشعر نفاذ
كالعطر
كالحرائق
لا ينفع معه إهانة التراب
يرتبط عنوان الديوان ارتباطا عضويا بالنصوص ولا تكاد قصيدة تخلو من إشارات إلى الكتابة الشعرية في علاقة تجاذبية تتجه وجهة واحدة تؤسس لتشكل المعاني داخل إطار شاعري يظل فيه العنوان يحيل إلى مضامين متداخلة تناولتها النصوص، والتي في مجملها بوح يفصح عن قلق ومعاناة وتمرد ومواقف منطلقها ذات شاعرة متذمرة وناقدة لوضع حياتي متأزم.
وهي بهذا العنوان تنحو منحى تحفيزيا لا يخلو من جمالية تغري بالقراءة والتأويل والبحث في كينونة النصوص.
بجانب العنوان، لم يكن اختيار الغلاف من أجل التنميق فهو الآخر يحمل رؤية لغوية ودلالة بصرية يتقاطع فيها اللغوي مع البصري التشكيلي في تدبيجه وتشكيله وتفسيره. والغلاف في حد ذاته قصيدة حلم تعبر فيه الشاعرة إلى عوالم روحانية رغبة في الخلاص والوصول إلى شط الأمان، واعتماد اللون الأزرق الذي ترتديه المرأة الشاعرة هو تعبير عن الثقة في التغيير والإصرار على الوصول.
رغم قتامة اللون الرمادي الذي يسود الديوان، ويحيل إلى الحزن والاكتئاب والغربة فإن ارتباطه بالعبور واللون الأزرق يحدث هذا التقاطع تكاملا يدل على الإلحاح بتخطي الصعاب وتحقيق حلم الخلاص.
وهكذا يظل الغلاف علامة تدل على مضامين النصوص باعتباره هوية بصرية تحمل في طياتها أبعادا ومؤشرات إيحائية.
النص الشعري في تجربة سعاد بازي المرابط يخضع في تشكله لتنظيم محكم يتأسس على تكامل وتجانس يخص مكوناته صوتا وإيقاعا وتركيبا ودلالة داخل بنية منتظمة تحضر فيها ذات الشاعرة أسلوبا ومعنى تعبر عن حالات شعورية وفكرية تتدافع في انفجار يحفظ للنص ذاك التناغم الذي لمسه المتلقي حسب سياقات ومقاصد النصوص.
والديوان في مجمله محاولة من الشاعرة لرسم إيقاع قصائد اختلطت برؤية متفردة تكشف عن ذاتها في الشعر، وامتزجت كتابتها بنفس رومانسي بحلة واقعية، تتعلق بلحظات هاربة تلاحقها بإصرار تتجاوز من خلاله المضامين لتخلق صورا من إيقاعات تبصم على هوية شعرية أصيلة. وهي في ذلك تنطلق من ذات شاعرية تملك مرجعيات ثقافية ساهمت في بناء مركب طبع قصائدها تحاول عبره التخلص من انسياب الشعر ومسبقاته الجاهزة للوصول إلى تشكيل بنية تميز كتابتها برصانة، ويميز صوتها المتفرد تلغي بذلك الثنائية بين الذات والموضوع، وصولا إلى هوية شعرية تتقاطع فيها ذات الشاعرة بشعرها.
فإذا أمعنا النظر في نصوص هذا المنجز الشعري نجده مشحونا بصور وإيحاءات وتراكيب تحكمها مرجعية ذهنية وثقافية، مما ساهم في تفرده وتقديم الشاعرة كصوت شعري مبدع لأشكال تعبيرية تتميز بالدقة سبيلها في ذلك صورا وتشبيهات مبتكرة آلياتها المماثلة الجزئية بإثارة حدس المتلقي وتحفيزه على إعمال الذهن تقول في نص “حجر ورخام”:
أتخيل أني قادرة على تحريك المارد من الفانوس
أكتشف أني هشة
جبانة
مغفلة بكثافة غزيرة
لم أتوقع بروتس بهيئة لطيفة
أتفوه بحشرجة
حتى أنت ؟؟
يخرج لسانه بضراوة
بروتس لا يحمي المغفلين
تثير سعاد سؤال الذات والمرجعية بتبنيها وضعية السؤال تتلمس أجوبة عن أنماط السلوك البشري الغارق في الخطايا بحدس يثير اعتقادا قد يسكن ذهن المتلقي ويدخله في مأزق المأسورين في منظومة العقاب:
” بروتس لا يحمي المغفلين ”
يظل صوت الشاعرة مؤثرا يرسم حدود قصائدها تضبط عناصر كتابتها المختلفة تؤلف حالات شعورية وتصبها في قالب تتحكم في بنائه.
ففي نص “لست أنا” مثلا تتيح لنا الشاعرة إمكانية تتبع تصاعد صوتها بخلق حركية تتشكل عبرها المعاني والدلالات منطلقها دواخلها في لحظات البناء والإيحاء، فتبدو منكسرة من غربة ذات متمردة في زمن اشتد فيه صراع القيم بين الماضي والحاضر، ماضي المواقف الثابتة والزمن الجميل وحاضر الرداءة مما أودى بها إلى البحث وسط تيه عن نفسها رافضة وضعها المأساوي في واقع متأزم. تقول:
حتما سأترك كوة يتربص بها الريح
الريح تشبه صديقة لدود
أخفت عود ثقاب سلمتها إياها ظلمة
لتحرق غابة روحي
ليصير صدري مدخنة
لم أبن بيتا
ربما لأن الطيبين يستحسن أن لا يكون لهم بيت
سيتركون أبوابه مشرعة على مصراعيها
كلهم مثلي
شربوا شايا بالبرسيم
الشاعرة في هذا المقطع تقدم نموذجا غطى قصائدها في منجزها الشعري، إذ تنقلنا بأسلوب مباشر إلى أفكار تخفي وراءها إحساسا بالمرارة وتضعنا أمام حالة نفسية تنم عن وعي الشاعرة بأبعاد المأساة المحيطة بها، والتي تتجاوز حالة الإحباط التي تعيشها لندخل معها إلى عالم الوعي بخفايا أسباب تذمرها «الأصدقاء/ الأعداء» ونواياهم بأسلوب مباشر تقريري إقناعي لا يخلو من صور معبرة حافظت به على شاعرية النص، نصل الى ذلك من خلال الإشارة إلى حقيقة المأساة انطلاقا من الانتقال بنا إلى خفايا الظلمة، حيث الكشف عن الجهل الحقيقي لنوايا الأصدقاء غير المنتظرة والوقوف على أسباب الإحباط والتدمر الذي سكن الشاعرة في صور متماسكة الأجزاء بوضوح فكري واستجابة للمناخ النفسي الذي تتحرك فيه مجمل قصائد الديوان منمية هذا المناخ وكاشفة عن تقلباته.
المنجز الشعري عنوان للهزيمة وتأنيب الضمير يوازيه وضع اليقظة والتحفيز والاستبصار داخل حالة نفسية تعيشها الشاعرة في تجربة تواجه فيها عنف تناقضات الفشل، الفشل في الحب: “الحب ضائع والحبيب سراب”
خيانة الأصدقاء: “الريح تشبه صديقة لدود”.
وضع ثقافي رديء: “ها قد كتب الشعراء كل شيء النصوص الضعيفة لا تخجل”.
إن الملمح النقدي الذي طغى على هذا المنجز الشعري جعلنا نقف أمام تجربة إبداعية متمكنة من آليات الكتابة الشعرية المتداخلة المستويات، حققت من خلالها الشاعرة توازنا بين ما هو صوتي وتركيبي ودلالي في اختيار البناء الفني الذي ميز نصوصها وذلك في إطار نظام من المرتكزات التي تضمن جمالية النص مبنى ومعنى تأخذ فيه اللغة الشعرية أهميتها المرتبطة بنسق نغمي يفصح عن اختيارات الشاعرة لإيقاع قصائدها وتوازن بنيتها.
قراءة في ديوان سعاد بازي المرابط .. «سأعبر جسر القصيدة» الدلالات وإعادة تشكيل المعنى
الكاتب : عزيز زكار
بتاريخ : 07/12/2024