قراءة في رواية «الزمن المقيت» لإدريس الصغير

بعد أن نحت اسمه ضمن لفيف القصاصين المغاربة والعرب المبدعين والمجددين، اجترح إدريس الصغير مجالا سرديا هو الرواية بغية تطوير مشروع نمط إبداعي دشنه بكتابة القصة القصيرة التي حجز لنفسه فيها مكانة مميزة بشهادة قاص وروائي من حجم محمد زفزاف خلال تقديمه لرواية «الزمن المقيت»: «أحد أبرز كتاب القصة القصيرة في المغرب.» ص:8.
تعتبر «الزمن المقيت» باكورة الكاتب الروائية التي متح فيها من وقائع حياة مزرية لفئة المهمشين الذين يعانون من ضنك العيش، ومرارة يومي تعتوره الفاقة، ويستشري فيه العوز.
ورغم ما يسم الرواية من اقتصاد لغوي يختزله غلاف حجمها (80) صفحة، وتسعة فصول، وأيضا حضور الأمكنة التي ينتأ فيها فضاء « طاميزودا» كملجأ للراوي يجيره حين
تتنامى حيرته، ويتضاعف كربه فيبثه همومه، ويفشي له مكنونات طويته ومعاناته الذهنية والحسية. مكان يحضر بثقله « النوستالجي» كمسرح احتضن لحظات فارقة ومشهودة من حياته المدرسية حيث شهدت جنباتها تهييئه بمعية صديقه حسن لامتحان الباكلوريا: « هذه طاميزودا هنا نجد أحسن مكان للمراجعة والحفظ والاستعداد للامتحان» ص: 40، وفي أرجائها تواردت على ذهنه مشهديات ووقائع علاقته العاطفية بنعيمة التي حالت مشاكسة الظروف واستعصاءاتها على استمرارها والرسو بها في مرفأ زواج خططا له بعدة من أمل وتوق وحلم، إلا أنه اصطدم بحادث وفاة والدها وانقطاعها عن الدراسة للاشتغال ككاتبة بمكتب محام فأجهض مستقبلها الدراسي وتوقف معه حلمها بولوج كلية الطب وتكوين أسرة تجمعها رفقة شريك ربطتها به علاقة عاطفية توطدت وترسخت عبر صدقية المعاشرة وصفاء المشاعر،وتحديد المرامي. عكس الشخوص الذين تميز حضورهم داخل فضاء الرواية، وسيرورة وقائعها بالوفرة (أكثر من عشر شخصيات) وجلهم ينحدرون من طبقة اجتماعية معوزة انخرطوا في حياة تعج بالفاقة والخصاص فرسم كل، حسب ظروفه، معالم واقع تخترقه الآفات، وتعشش فيه الاختلالات. إلا أن ما يولد وينمو ويتكرس من تقليد أخلاقي يقوم على علاقة التكافل والإيثار (مساعدة حميدو للراوي باستضافته في بيته ، وإكرامه، بل مده بمبلغ مهم مما ربحه من لعبة القمار) فرغم تباين مستواهم المعرفي والثقافي (حميدو والراوي كمثقفين، اشتغال الثاني بالتعليم الذي فقد فيه منصبه بسبب اعتقاله لدواع سيا سية ، في الغالب، انقطاع بوشعيب عن الدراسة مبكرا واشتغاله بالنجارة التي تخلى عنها بعد أن حول بيتا موروثا إلى ماخور للدعارة والمجون وشرب الخمر…) إلا أنهم ظلوا أوفياء لزمن الطفولة والدراسة حيث توطدت أواصر تلاحم متين، وأحكمت عرى تآزر راسخ بات صامدا أمام تقلبات الزمن وارتداداته.
ولعل ما خول للراوي تسيير دفة الحكي، وسرد وقائعه ومجرياته موقعه كرجل تعليم انخرط، بما راكمه من تجارب، وما حصله من وعي، في حركة تؤمن، بشكل أو بآخر، بتغيير يروم فضح ما يعج به المجتمع من مظاهر فساد يعوق دمقرطة مناحي الحياة فيه، وعرقلة آليات التنمية والتقدم…مما عرضه لاعتقال أفقده وظيفته، وزج به في دركات عطالة حتمت عليه التفكير في الهجرة والتخطيط لها بعد حصوله على جواز السفر.
وضع ما فتئ معه الراوي يبحث عن مسلكيات هجرة قد تنقذه من براثن الضياع وضبابية الأفق ، أهله لكشف بعض أعطاب المجتمع وآفاته:» التعاسة تبدأ منذ أن تطأ رجلك أول درج من باب إدارة عمومية. ستكون في مواجهة أناس لا يردون التحية ويزمجرون بأصوات نكراء وكثيرا ما يستخدمون أيديهم في الدفع بك خارج المكاتب» ص: 10، مبديا ما ينتابه من ضجر وسأم في مدينة يعتورها الجمود، وتجثم عليها الرتابة والركود: « لا يجد الإنسان في هذه المدينة اللعينة من عمل سوى أن يدخن السجائر على رصيف مقهى ويثرثر بلا انقطاع حتى يغيبه النوم في سبات عميق. هناك اختيار ثان، وهو أن يدلف إلى أول حانة تصادفه فيغرق في كأسه حتى أذنيه.»ص:18.
وضع يتماهى مع حالته الشخصية الراسفة في أغلال العجز والضياع: « أصبحت في وضعية المعوق الذي لا يستطيع أن يأتي شيئا إلا بمساعدة الآخرين»ص:20.
وبحكم أن الراوي يجسد مستوى راقيا من الوعي بثوابت ومقومات مجتمع تعيش مؤسساته على إيقاع اختلالات تؤثر على تسيير شؤونه، فيتدنى الحس بالمسؤولية أمام استشراء أنماط الاستهتار بالمصلحة العامة وتفشي الزبونية والمحسوبية، فإنه لا يتوانى عن التذمر من هكذا ممارسات مشينة، وسلوكيات تشذ عن أخلاقيات العمل الإداري وأبجدياته: « وحين يهدك التعب في الطواف بالإدارات لتجمع ما طلب منك تحضر إلى هنا لتجد ملفك ناقصا.» ص:13، مسترسلا في كشف حقائق مزرية عن فساد استشرى في جل مناحي الحياة العامة، واستفحل في العديد من مرافقها: «هنالك آلاف طلبات الشغل المقدمة للقطاع الحر في انتظار الوساطات أو المباريات الملغومة… أما عن إكمال الدراسة فيكفي ماعشته في المرحلة الأولى من نتانة أساتذة يضاجعون الطالبات مقابل النجاح …دروس مكرورة مملة … جمود البحث العلمي … وساطات. تدخلات … جهلة ترشح بهم السقوف وهم يحملون شهادات لا يدري أحد من أين أتوا بها « ص: 29. وعي يضاعف من معاناته، وينمي إحساسه بدونية يرغب في فك شفراتها، وحل طلاسمها بهجرة تنقذه من مستنقع فاقة مقيتة، وعوز مكلف: « بكت نعيمة في حضني، وتشبثت بي عمتي ووجم الأصدقاء أمامي، لكن لم أجد مفرا لي من الهجرة.» ص:35.
وللزمن تشعبات وامتدادات في سيرورة الرواية بما يرسم من آفاق، ويفتح من معالم إلا أن زمن الراوي المحكوم بخلفيات فكرية وثقافية يحظى بثقل رمزي ودلالي وازن في منظومة الحكي عبر أدوات ووسائط تتغيا الكشف والاستشراف الصادرين عن رؤية أشمل وأعمق لواقع يتمرغ في حمأة الزراية والفساد: « فهذا هو زماننا، هذا هو الزمن الشقي الذي كتب علينا أن نحياه.» ص:40.
وإذا كانت الرواية تعكس معاناة وهموم مثقف ينتمي لشريحة اجتماعية فقيرة قاده وعيه العميق، وإيمانه الراسخ بقضية التغيير إلى الاعتقال والحرمان من وظيفته في التعليم التي كانت مصدر رزقه الوحيد، فعاش حياة بئيسة ولدت لديه إحساسا مريرا بالعوز والحاجة: « لولا عمتي ولولا نعيمة ولولا الأصدقاء لكنت الآن أشحذ في الشوارع كسرة خبز أتبلغ بها.» ص: 28فإنها، أي الرواية، لا تخلو من « تيمات « تغني متنها السردي وتشرعه على آفاق حبلى بدلالات تاريخية وحضارية: « هذه عربات الرومان ذات العجلات الخشبية تجوس أرضك بصلف يصيح من فوقها الجنود بخوذاتهم النحاسية وزيهم الأحمر الذي ينحسر عن الركبتين … هذه سفن القيصر تروح وتغدو على مياه النهر العظيم محملة بالمؤن والعساكر والعبيد…»ص:40، أو من قبيل أسئلة تزخر بزخم وجودي: « ترى لماذا يعيش الإنسان؟ أيعيش فقط ليجد في البحث عن طعام يحشو به بطنه… ثم يطمر بعد ذلك في قبر مظلم تنهش لحمه الديدان والهوام؟» ص:42، كما تتضمن لغة الرواية نفسا رومانسيا تنوع مسارها السردي، وتمنحها نفحات تكسر خطية نسقها التعبيري:» رأيت الشمس وقد مالت إلى المغيب. مخلفة شفقا أحمر ممتعا، تسبح فيه طيور جذلى مرحة…» ص:43.
ويبرز الدين كذلك في ثنايا الرواية: « أتكونين بعضا من روح الملائكة التي تتحدث عنها الأديان؟ تلك التي يسخرها الإله لبث الفضائل والسلم والحق فوق أرضه التي تغلي بالفجائع والشرور…»ص: 23
كمخلص للبشرية من الشرور التي تتسع ربقة سطوتها، ويتنامى زخم تجلياتها وتمظهراتها.
ولا تنسي هموم الراوي الشخصية الاهتمام بقضايا وطنه الكبرى والتاريخية كفترة الاستعمار بتداعياته، وآثاره العميقة في نفوس وعقول المواطنين الذين تصدوا له بروح وطنية عالية توثر الكفاح والمقاومة على الاستسلام والخنوع: «كان الكبار يمنوننا بحياة سعيدة لم يكافحوا إلا من أجل الحصول عليها. كانوا يقولون لنا لن يتحكم فيكم بعد الآن أي أجنبي. بعد أيام سيعود الملك الشرعي إلى البلاد. وسيرحل جند الاحتلال إلى غير رجعة»ص:61، ونكسة العرب والفلسطينيين عقب هزيمة حزيران 1967 وما خلفته من إحباط ومرارة في نفوس الأمة العربية: « لكن فجأة انهار كل شيء. لا أستطيع أن أفهم ما حدث. رأيت الناس يبكون بدموع حارة… هل حلت بنا الهزيمة حقا؟»ص: 48، وضع لم يستسغه الجميع، وعجزوا عن تصديقه، وتقبل تداعياته بحمولاتها الحبلى بصور السقوط والانكسار ممنين النفس بمواصلة المعركة وعدم الاستسلام: « لقد تمنينا أن نكون على أرض المعركة.» ص: 48.
تتوزع فصول الرواية بين اعتماد مقومات سردية تندرج ضمن ثوابت وتقاليد الموروث الروائي كالوصف: « أخذت تشنجات وجهه تسكن. فانطلق الفم وانبسط الخدان وأخذت الملامح صفة العبوس والتربص.» ص:10، والتوسل ب»تيمات» مغايرة من قيل الغرائبية: « شعرت أنه أصبح لي جناحان. حملتها فوق ظهري فاستسلمت، ثم حلقت بها فوق المكتبة، ثم المدينة. اخترقت السحاب، وكل السماوات…» ص:25.
وأخيرا تبقى « الزمن المقيت» باكورة إدريس الصغير الروائية منجزا سرديا مشبعا بروح التجديد لما تتضمنه من آفاق تروم التأسيس لكتابة تنهل من تجليات واقع محكوم برؤية صادرة عن وعي يتغيا التغيير عبرالكشف والاستشراف.


الكاتب : عبد النبي بزاز

  

بتاريخ : 01/02/2020