قراءة في رواية» سيدات العزيز» للروائي المغربي «نزار كربوط

الصراع مع الذات والعودة الى منابع الألم

 

لعل الكثيرين سيحيلهم عنوان الرواية على قصة يوسف وزوجة العزيز وحكاية القميص الذي قد من دبر. لكن مع الشروع في قراءة الرواية، سيفهم القارئ وهو يسترسل مع صفحاتها بأن موضوع الرواية بعيد ومختلف تماما عما تبادر إلى ذهنه من القراءة الأولى لعنوان الرواية. وسيعرف مع توالي أحداث الرواية بأن هناك شخصا وهو بطل الرواية الأساسي واسمه “عزيز” يشتغل محررا في مجلة تهتم بالثقافة والفنون، ويكتب مقالته في آخر صفحة المجلة يخصصها لموضوع فني في كل عدد يصدر من المجلة.
أول ما نلتقي مع عزيز نجده جالسا في مقهى محطة القطار بمدينة الرباط يحتسي قهوته ويدخن ويقرأ جرائد على طاولة المقهى، ثم فجأة يقف ويمشي وراء امرأة سمراء تحمل طفلا أبيض، يشك في أمر اختطافها له، لكن سيظهر في ما بعد أنها خادمة جاءت تحمل طفلا لاستقبال أمه في محطة القطار آتية من البيضاء وهي ترتدي زي مضيفات الطيران، فأخذت ابنها من حضن الخادمة تحضنه بشوق وتقبله بلهفة أم اشتاقت لابنها بعد فراق. ولعل هذه اللقطة في الرواية تنطق بما يحمله عزيز من اشتياق لما رآه، لأنه حرم حنان الأم وهو طفل صغير لم يتجاوز السنة الثانية من عمره، ليعيش بعد ذلك في كنف الأب العامل البسيط وزوجة الأب التي ستذيقه العذاب الأليم وهو طفل صغير طري العود. وسيجد عزيز نفسه في وضع قاس جدا وحرمان شديد، لاسيما بعد وفاة والده فى حادث سير، فيقرر الرحيل عن البيت هروبا من جحيم زوجة والده الراحل فيجد نفسه يركب حافلة متوجها إلى ” كازابلانكا ” كما كان يسمع عن المدينة الشاسعة والكبيرة، وهو لا يتجاوز السنة الخامسة من عمره.
ستتوالى عذابات عزيز ومشاقه وشقاؤه، لكنه تعلم مع الحياة وفيها ألا يستسلم أو ينهزم مهما اشتدت محنته ومهما عظمت.
ولأن الأقدار أحيانا تكون بجانب البعض وتساعده على تجاوز الصعوبات وعلى بناء الذات ومواجهة التحديات للبقاء في الحياة، فإن عزيز استطاع أن يقبض على الجمر وأن يجعل لنفسه مكانة محترمة في المجتمع، ويبني علاقات محترمة مع الكثير من الأصدقاء والصديقات والمعارف وقد صار محررا معروفا في مجلة تهتم بالثقافة والفنون ويكتب فيها مقالات يوقعها باسمه.
وإذا كان عزيز قد عاش شبه متشرد يتلقى ضربات عنيفة في صميمه وعاش وهو يواجه ويقفز فوق المحن والأحزان، فإن الوشم، وشم ماعاشه في طفولته بقي عالقا في نفسه، وكأن تلك الحياة الصعبة الماضية بمثابة جراب يحمله على الظهر ولايفارقه أبدا، بل أكثر من الحمل إنه يشعر بثقله فوق ظهره ويشعر بأنه يحد من انطلاقته وخطواته التي يريدها أن تسير إلى الأمام.
إنها مرحلة الطفولة الصعبة وآثارها الوخيمة، جراحاتها، وأحزانها من تحضر وتملأ عليه حاضره ولحظته الراهنة. من هنا ذلك الحضور المتردد في الرواية للطفل وللحوار الذي يقيمه مع عزيز. الطفل هو عزيز الماضي الجريح، المعطوب في داخله، وفي نفسيته الهشة الحزينة التي لم تستطع تجاوز جراحات وأحزان زمن تلك الطفولة المعذبة، والتي أذاقتها  زوجة الأب كل صنوف التعذيب.
في الرواية يحضر الطفل دائما بعد لحظات فرح وانتشاء، أو بعد سماع عزيز لخبر مفرح وسعيد. وكأن الطفل يريد، بل يعمل على تكبيل عزيز، وجعله لايفارق أو يتخلص من زمن القسوة والعذاب. تقول الرواية في صفحة 182:” أتعتقد أنك ستتخلص مني بهذه السهولة، وتقذفني إلى دائرة النسيان هكذا؟!.لا، ياصديقي الكبير، أنت مخطئ، لن ينفع معي لا أطباء ولاحشيش ولا أدوية مهدئة للأعصاب.  فأنا عالق في حلقك إلى الأبد “. من هذا المقطع من الحوار الذي دار بين الطفل/  الطفولة الماضية مع عزيز يظهر مدى إصرار ذلك الطفل على التشبث بصاحبه( صديقه الكبير) وعدم تركه ليعيش الحياة وهو يتعافى من الماضي البئيس ومن زمن الطفولة المحرومة والمتشردة. وقد زاد احتداد  الصراع بشدة أثناء حوار عزيز مع ذاته ونفسه لما كان طفلا صغيرا  حين ظهرت ” منال” في حياة عزيز .
عزيز الذي حاول أن يتداوى بالحب،  ويتشافى بحضور فتاة جميلة في حياته حيث بادلته حبا بحب. وعاشا علاقة عرفت بعض المشاكل والتوترات خاصة من طرف عزيز الذي تعاوده حالته النفسية الصعبة ويشعر معها بأنه لا ينبغي له الدخول في مغامرة الحب لأنه لن يستطيع تحمل المسؤولية، كما يشعر بعجزه عن الذهاب بعيدا في العلاقة مع منال وبناء أسرة مع أطفال .ومجرد التفكير في الأطفال والطفولة يجد نفسه غارقا في حالة من الخوف والتردد.
ويبدو أن الروائي ” نزار كربوط ” أراد أن يقدم لبطل روايته، وصفة سحرية كفيلة بأن تشفيه وتزيل عنه كثيرا من أحزان ماضي طفولته التي لا تتركه يعيش الحياة في سعادة وفي هناء البال.وقد كانت الوصفة هي ” الحب” والعشق والأهم  معهما حضور  ” البوح”. لقد كانت منال الحبيبة السند الكبير في محنة حبيبها عزيز حين ساعدته على البوح، وعلى إخراج الألم العارم الذي يختزنه في صدره ويحكي لها القصة من بدايتها الى لحظة اللقاء بها والتعرف عليها. وبذلك تقول الرواية ” إن تجاربنا الأليمة التي نعيشها في طفولتنا، سنحملها معنا رغم كبرنا، وستبقى وشما في أرواحنا وشما يعذبنا كلما تذكرناه وحضر فينا. لكن حين نحكي أوجاعنا لمن نثق فيهم ونحبهم، ونشعر أنهم يبادلوننا نفس الثقة ونفس الحب، فإننا بذلك نكون نتخفف من الأحمال الثقيلة ومن أحزان ماضينا، وتكون تلك هي بداية الطريق نحو العلاج “.
وهذا ما يظهر من نهاية الرواية حين يقبل عزيز بالبقاء وبالعيش مع منال وهي حامل منه، ليصير بذلك أبا في المستقبل. وسيحضن المولود(ة) ويعلن بذلك بأن الطفل القادم هو عنوان لمستقبل جديد ولحياة تنتفي منها عذابات الطفولة، وبالتالي فهي ولادة ” عزيز” آخر جديد أو ” عزيزة” أخرى جديدة . وقد كان قبل كل ذلك عاد إلى مدينة ” الناظور” مسقط رأسه، وذهب إلى حيث يوجد بيته القديم الذي فر منه بعد وفاة والديه معا. فر من جحيم زوجة والده التي وجدها في حالة مزرية وتثير الشفقة في مدينة ” تازة” بعدما كان عزيز ينوي أن يلقاها وينتقم من كل مافعلت به، لكنه  لما وقف على حالتها وهي أمام باب حانة تبيع أوراق ” التيرسي” تراجع عن كل ما كان يحمله من حقد وانتقام في صدره تجاهها، ويكون بذلك الفعل (العودة إلى مصدر الألم ومنبعه )، كأنه اغتسل من كل الحمولة الثقيلة من زمن الطفولة. إنها العودة إلى منبع العذاب للارتماء في خضمه والانصهار فيه، ومواجهته عينا في عين، والنظر فيه دون أن يثير في النفس تلك الرهبة، وذلك الخوف والقهر السابقين، وبذلك يتم الخروج من الموقف الرهيب وقد تم الاغتسال النهائي من الآلام النفسية التي رافقته لسنوات طويلة  !.


الكاتب : إدريس أنفراص

  

بتاريخ : 28/08/2025