قراءة في مسرحية كو ـ ڤيد 18 .. لعبة التسلط والضياع في انتظار الخلاص 2/2

 

3 – نحو مقاربة للتصور الإخراجي

كل العناصر البنائية لعرض CO_VIDE81 تضعنا داخل شراك مدرسة العبث، وبالذات تجعلنا نمارس برغبة ومتعة لعبة نهاية العرض المسرحي ونصفق بحرارة على أبطال المسرحية وتقنييها واحدا واحدا قبل البداية، بل بالتأكيد على أن المسرحية ما غاتساليش وماكاينش شي واحد غادي يفرح ويشوف النهاية ،ولن ينتهي الممثلون من تشخيص أدوارهم إلا بعد خروج آخر متفرج من قاعة العرض. إنها اذن لعبة النهاية لصامويل بيكيت التي اقتبس منها كاتب هذا العرض ومخرجه، أيوب ابو النصر بنيته النصية وبناءاته الاخراجية وظل مخلصا لتعاليمه العبثية في تحريك الشخصيات وفي حواراتها اللا تواصلية، وفي استخلاص النتائج اللامعقولة من تحركات بدون معنى للشخصيات .
بناء على الاشارات السابقة سأقوم برصد العناصر التالية في هذا العرض :

الكاستينغ وإدارة الممثلين:
نجح أبو النصر بصفته مخرجا للعرض في اختيار جيد للممثلين سواء على مستوى البنية الجسمانية الدالة على الفعل والحركة من حيث الامتلاء والرأس الأصلع في مواجهة الهيكل النحيف ذو الوجه الملتحي الحزين ، وبالأخص اختيار من حيث القدرة على الأداء التشخيصي للأدوار والاندماج الواعي في تفاصيل الشخصيات ،كما تجلى ذلك أيضا في شخصية الزوجة /الام العجوز التي أنهكتها السنون ولم تترك لها سوى جسد خائر وصوت اشبه بمواء قطة خائفة أو طفل صغير يبحث عن صدر دافئ ، اختيار استحضر فيه المخرج شرط التلاقح بين الاداء الكوميدي والمضمون التراجيدي، وهو أيضا اختيار فني لتكريس فكرة العبث في كل شيء ، وذلك ما تجلى لنا في الاداء البارع المتقمص للحالات النفسية المنشطرة من الداخل واللا مبالية من الظاهر ، فقط هي حزمة من الضحكات غير المفهومة على خيباتها السابقة ومآسيها الراهنة مما مكن المخرج من إدارة الممثلين فوق الركح خلال تموقعاتهم شبه الثابتة بحنكة وسلاسة في إيصال المراد والوصول إلى المرام ….
لغة النص وحواراته تتجلى قوة الرؤية الاخراجية في اختيار مضمون لغوي خال من المعنى الدقيق لدرجة يمكن القول معها إن الجملة اللغوية هي مجرد مبنى من الحروف والكلمات بدون تصور منطقي للحياة والوجود ،فهي كلام مشتت قصير البناء ، منطقه الوحيد هو الكلام و الهزل بفعل اليأس من تحقق تغيير أو جديد ولا يبقى دائما سوى الانتظار في زمن من البطء وأحاسيس من الملل واليأس. فمثلا حين يحاور كلوف سيده الأعمى حول إمكانية الرحيل يدور الحوار حول المطبخ باستمرار والسلم المتهالك والساعة والموت والرائحة الكريهة، وكلها عناصر مفككة، محورها العبث في تصور الوجود لأن الساعة البطيئة توقفت عقاربها والوقت فيها لا يتغير رغم تحريك عقاربها ، …..
وتظهر مهزلة الوجود حين يتم اكتشاف حشرة قملة فوق رأس الاعمى ، الذي تاه بنا في جملة من الإحالات قبل أن يرسو بنا دون مقاومة منا ، فوق موجة من الفرح بالحياة ، حياة القملة ككائن حي يجب أن يتناسل ويعيش لتستمر الحياة ،مع سيل من النواح والبكاء، بعد قتل القملة من طرف كلوف ،الجميع يبكي شخوص العرض والجمهور بإشارة من الاعمى المقعد /قائد الجوقة وانخراطنا كجمهور بتلقائية في البكاء بشكل اختلط فيه بكاؤنا دون دموع بضحكنا المسموع ،فاصبحنا في حالة بكاء أشبه بالضحك ،أو ضحك كالبكاء ،كل هذا بسبب قتل القملة ،أليس هذا منتهى العبث،؟! في مقابل إلقاء الوالدين في قمامة أزبال ،وتجويعهما حد الموت ،ونفس المنحى بنيت به باقي الحوارات، بين الزوجين حول الحمل والانجاب والبنوة والشوق والحب والشعر، بل حتى في البحث عن مطفأة سجائر بدون تدخين ..أسلوب تعبير خال من المعنى ،مؤداه الخواء والفراغ الداخلي للذوات المغتربة عن ذاتها ،ولعل قوة الاسلوب اللغوي الدراجي المتفرد هو الذي ساهم في بلورة رؤية إخراجية متماسكة وقوية حيث أسعفت هذه اللغة الدارجة البيضاوية المخرج وهو متخرج من تربتها ويتقن مدلولاتها اللغوية ،اسلوب مشبع بروح الهزل ، والشتم غير الجارح، والجرأة في استعمال كلمات ذات دلالات بدون قدح او خروج عن المقبول من قبيل كلاتني كلاتني ، *صبعي ،صوبعي* ، بوسيني ، *حكي لي ظهري … مفردات ساهمت كثيرا في بناء الحوارات، وتكسير ملل الصمت والانتظار دون معنى، بل حققت الفرجة بكوميديا سوداء داخل تراجيديا بيضاء إن صح هذ التعبير ..

البناء الدرامي للعرض
على غرار جل العروض العبثية لا توجد في عرض گو ـ ڤيد 81 بداية أو نهاية بل نواجه فوق الركح نهاية قبل البداية، حين يخاطبنا مسؤول التواصل في الفرقة ، ومقدم طاقمها بجملة: قدمت لكم ونحن لم نشاهد بعد اي شيء ، ….
يغيب في هذا العرض النسق الكلاسيكي المعتاد، إذ لا نجد عقدة أو حبكة متنامية أو أزمة وانفراجا وحلولا أو وجود أحداث مترابطة، أو شخصيات واضحة المعالم ، بل كل العناصر، مجرد محاكاة للمعيش اليومي التافه والمقرف ، كالحديث عن التجويع حد الموت ، وعن عرق الابط الذي يبلل كسرة الخبز اليابسة ، عالم تسكنه كائنات من ذوي العاهات ، شيخوخة وثرثرة وتردد مستمر على المرحاض ،كائنات بدون نظر أو سمع او قدرة على المشي أو التواصل في عالم مظلم ضيق مخنوق .

البعد الزمكاني للعرض:
المكان غير محدد قد يكون غرفة مظلمة لها منفذ صغير في الأعلى ، يصل إليه فقط شخص واحد هو كلوف عبر سلم حديدي مهترئ على وشك الانكسار ،باب وسياج لم يعد لهما وجود على الاقل في المنظور الركحي، فقط يسأل عنهما الأعمى حين يتفقد داره التي لم تعد داره ،بل دار للموتى تفوه منها الروائح النتنة ،فالمكان مقبرة يسكنها الأموات ولا حياة فيها ،المكان سجن واعتقال داخل قضبان حديدية تكتم الانفاس وأقفاص من حديد في كل الجهات ..أقفاص سميكة تعتصر الاجساد على ضخامتها.
وطيلة ساعة ونيف والممثل المقتدر أمين بلمعزة كان أكبر ضحايا هذا المعتقل تحت سلطة أوامر جبروتية اقسى من القسوة ولا خلاص له من قفصه سوى الوصول الى نقطة انتهاء العرض وانتظار شفقة الجمهور لمغادرة القاعة.
إذا كان المكان مغلقا، فالزمان تراجعي يسير للوراء، وينتهي قبل أن يبدأ وعقارب الساعة تتحرك ببطء كبير ، أو لا تتحرك.
وحين يتم التساؤل عن الغد يتم الاستغراب من السؤال ،هل يوجد هذا الغد؟؟ كما يقول الاعمى مخاطبا كلوف …
إن بطء الزمن هو الدليل الوحيد على التماطل والتمطيط والسير الطويل ، والانتظار بدون معنى لأن القادم مجهول ،وهذا هو مكمن الشعور بالعبث .
لماذا نحن هنا؟ وماذا ننتظر؟ ومن ننتظر؟؟؟
أسئلة لها جواب واحد هو أننا أتينا في زمن ما ،بدون إرادة أو اختيار وما علينا سوى القبول بهذه الحياة التي تم الإلقاء بنا إليها بغير إرادة أو وعي أوعلم.
كل شيء يسير ببطء وحين تسعفنا الذاكرة ونتذكر أشياء من زمن مضى ،ندرك بمرارة قاتمة أن الاشياء الجميلة سلبت منا حيث نكتشف أن ما تبقى فينا هو القبح والبشاعة فيزداد كرهنا لعالمنا ولذواتنا.إنه زمن العبث اللامتناهي ….
رؤية إخراجية تمتلك أدوات الاشتغال بحرفية أكاديمية ، ورؤية فكرية عميقة ومتمكنة تحيل مباشرة ودون التواء الى مدرسة العبث المسرحية وترسو بشكل شبه نهائي في محيط صامويل بيكيت ، ولكنها رؤية استطاعت أن تنهل بقوة هذا الايمان من بحر الدارجة البيضاوية السلسة والمليئة بالصور والتشبيهات والإحالات الدالة على الوجود ،خصوصا ما يتعلق بالأوضاع المزرية المرتبطة بحياة الناس في أكواخ الكاريانات و أحزمة الفقر ،
والجميل الذي يحسب لأيوب ابو النصر ، وهو يتصور عمله ويخرجه الى الوجود، أنه ظل مخلصا لأسلوب كوميدي هزلي ممتع في تقديم تشريح ركحي لحياة غير جميلة ولا متعة فيها، وتلك هي المفارقة التي ينجح فيها الكبار. فهنيئا لايوب ابو النصر بكسب جولة صعبة في انتظار باقي الجولات ….
على المستوى السينوغرافي للمبدع الممتع طارق الربح، يظهر التجديد والتحقق الوظيفي لباقي للعناصر المؤثثة .
عناصر ليست كمالا ولا حشوا ولا إبهارا بل تأثيثا مكانيا أعطى العمل خصوصياته الإبداعية وربما من منظوري هي أكثر العناصر الإبداعية تخلصا من التبعية لمسرحية لعبة النهاية . والجميل في هذا الإبداع السينوغرافي للعرض هو الديكور الحديدي الذي يعتقل نزلاءه وكائناته كسياج من حديد يمكن من اللعب أمامه وخلفه شكلا وصوتا وصعودا ونزولا على سلم حديدي يميز بين الثابت والمتحرك في العرض ،قطع حديدية متحركة ومستجيبة للطلب وأقفاص حديدية تفتح وتقفل على سكانها من بني البشر بلون أصفر حائل ، شاحب ، لا هواء ودماء فيه بلون الموت يشعرنا بالجفاء والجفاف، فضاء بدون مخرج أو نوافذ ،عدا كوة في الأعلى تخبرنا بالموت المطبق على الكون، ملابس بنية غامقة وغريبة ، كدلالة على قتامة اللحظة …أزياء ممزقة ومهترئة تدلنا على هشاشة الموقف القابل للسقوط ،إضاءة بسيطة بين الأحمر والأزرق تتخللها صور الشخصيات معكوسة بفنية على عمق الأعمدة الحديدية تذكرنا بطبيعة أحاسيسها بالحزن والاقتراب وتبادل الأدوار بين السيادة والعبودية الى درجة رثاء أوضاع سجناء هذا القفص وسط العتمة .
إنها في النهاية لعبة التسلط والضياع في انتظار الخلاص الذي لا يأتي ابدا…
ومؤثرات موسيقية تقدم اللحظة بتعابير وجمل فنية صادقة تخاطب بصدق أحاسيسنا والتجاوب معها..

على سبيل الختم
CO_VIDE81گو ـ ڤيد عمل فني متجدد في شكله، أصيل في بنيته اللغوية وإعداده الدراماتورجي وأيضا في تخريجه الركحي، واضح في رسائله، ومضامينه بأداء تشخيصي بليغ، تحكم فيه عنصر الصدق المبهر، والمهنية في الحركة والتموقع وملء االمكان. والزمان البطيئ بتلوينات صوتية و سينوغرافيا لتأثيث الفضاء بشكل وظيفي يزيد اللحظة تألقا وحضورا…
هي فقط ملاحظة فريدة لا تسقط عن العمل جودته وجديته وإبداعاته ، ولكنها تلفت النظر الى إمكانية الغوص أكثر في بنية النص للانتقال به من خانة الاقتباس الضيقة الى باحة الاستنبات الرحبة على غرار ما فعله الرائع سي محمد قاوتي في عمله «سيدنا قدر» استنبت فيه نص «في انتظار غودو» في تربة مغربية خالصة قريبة من هموم واقع الإنسان المغربي البدوي البسيط..
ومع ذلك فالإشارات دالة على أن أيوب أبو النصر لا يتقن فن التشخيص والتمثيل فقط، بل قادر على الغوص في أعماق الكتابة والإخراج ، هذه الملكة التي جعلتنا جميعا كمتفرجين مستمتعين بعرض «گو ـ ڤيد 81 « نستسلم بقلوب مؤمنة بألوهية ركحية في معبد شارع الفن وكهنته للخلاص والتطهر ….

* باحث في المسرح


الكاتب : قاسم العجلاوي *

  

بتاريخ : 25/10/2024