قراءة في مسرحية «منطق السقائين» … منطق الطير وذئب أفلاطون

تمثل تجربة الكاتب المسرحي المسكيني الصغير، إحدى أبرز التجارب المسرحية المغربية المميزة، التي سطع نجمها مع أواخر ثمانينيات القرن العشرين، والمتمثلة أساسا في ريادته لتجربة المسرح الثالث إلى جانب المخرج المسرحي عبد القادر عبابو الذي تبنى هذه النظرية وكان له الفضل في نقلها من بعدها التنظيري إلى بعدها الإبداعي والجمالي عن طريق ترجمتها إخراجيا /نظرية الإخراج الجدلي، وهي تعد تجربة مفصلية في تاريخ المسرح المغربي، تجلت في بعث التراث واستدعاء الأسطورة والشخصية التراثية وتمكينها من حظوة خاصة في بناء النسيج الجمالي للعرض، لا على مستوى اللباس أو المؤثرات البصرية التي تستجلب الجمهور باعتباره ركيزة يرتكز عليها المسرح الثالث إلى جانب الممثل واللغة. وبينما كان المسرح المغربي، قبل هذه المرحلة، يصب اهتمامه على الاقتباس وإعادة التأليف والاشتغال على النصوص العالمية. جاءت تجربة المسرح الثالث وغيرها من التجارب المسرحية المغربية المعروفة، كمدخل تجريبي يجدد من خلاله المبدع المغربي ارتباطه بفن الخشبة ولكن من زاوية تتمين البعد الهوياتي العربي عامة والمغربي على وجه التخصيص، والذي كان سببا مباشرا لتوثيق أواصر الصلة بين الكتابة والطابع المحلي الوطني من خلال التعبير عن قضايا فكرية واجتماعية وسياسية مسكوت عنها، وذلك عبر تعميق المعارف وخلخلة الثابت الزائف من المعتقدات والأفكار والتطلع نحو عالم أفضل ومغاير يمنع قولبة الإبداع وتنميطه.
وفي رصد التجربة الإبداعية للمخرج والكاتب المغربي المسكيني الصغير، باعتبارها من التجارب المسرحية التي تستحق لحظة تأمل مستفيض في أبعادها الجمالية والدلالية و الدراسة والتحليل المفصل لعناصرها، لابد لنا من الوقوف عند نصه المسرحي الجديد والموسوم بـ منطق السقائين، وهو نص صادر عن فرقة مسرح الورشة، ويعد العمل الثامن عشر له في مجال التأليف المسرحي، بعد تراكم إبداعي متنوع وزاخر ممتد في مجال الكتابة الشعرية والمسرحية، نذكر من بينها: العقرب والميزان، البحث عن رجل يحمل عينين فقط، رجل اسمه الحلاج، سرحان، عودة عمر الخيام الى المدينة المنسية، محمية للأموات النادرة، الخروج من معرة النعمان، البحث عن شيخ الطريقة، وغيرها من النصوص المسرحية التي اختارت أن تكون شاهدة على تطور الحركة المسرحية المغربية، ومنتصرة للمسرح و للحياة في أبهى صورها باعتبار مبدعها على حد تعبير المخرج المسرحي إبراهيم الهنائي « يؤمن أن الكتابة موقف لا يساوم ولا يساوم» .
ويتوزع النص المسرحي منطق السقائين على أربعة مشاهد، أثار من خلالها المؤلف صراعا دراميا بين شخوص مسرحيته حول ماهية العلاقة بين الحاكم ورعيته، والدور الذي يلعبه العلم والمعرفة في قهر النظام المستبد والقضاء على كل ما هو مبخس لقيمة الإنسان ولوجوده داخل المجتمع، شخوص تختلف ظاهريا لكنها تتفق في كونها انعكاسا لجوهر الفكرة التي تبناها الكاتب المسكيني الصغير ودافع عنها طيلة زمن المسرحية.
تدور أحداث المشهد الأول من المسرحية، في فضاء المدينة وبالتحديد أمام مدخلها، حيث يجلس السقاء معروف قرب شجرة يابسة متدمرا من قرار الحاكم بمنع الناس من السقي من ماء البئر، و فرضه عقوبة على كل معارض لهذا القرار. يظهر سرب من الطيور محلقة فوق باب المدينة ثائرة بأصوات وهمهمات تحاكي مشاعر السقاء معروف وتوحي بعوالم ملأى بالأسرار والغموض، تدخل الركح شخصية أخرى وهو فريد الدين العطار، شخصية استقاها الكاتب من عمق الحضارة الفارسية، والمعروف أنه كان يمتلك من الحكمة والعلم الشيء الكثير، فهو الزاهد والمتصوف والفيلسوف والشاعر والمؤلف لكتاب منطق الطير، مما يوضح أن توظيف المسكيني الصغير لهاته الشخصية بالذات كصوت يدافع عن الحق ويقف في صفوف الضعفاء والمغلوبين من عامة الناس، لم يكن توظيفا مجانيا، بل له من الابعاد الرمزية والتاريخية والفكرية ما يخدم السير الدرامي لأحداث المسرحية ولربما هو نوستالجيا للزمن الماضي يعيد من خلالها الكاتب إحياء شعور المجد والفخر لدى المتلقي وإرسال رسالة ضمنية عبره، تفصح عن أنه لا يمكن أن يعبر عن الحق الجاهل به.
يبدأ الحوار بين الشخصيتين، فيخبر السقاء معروف فريد الدين العطار بقرار الحاكم، وبما أنه رجل حكمة ومنطق سيعارض هذا القرار المجحف في حق المساكين، إذ يقول محتجا «ما أسمعه وأراه كفر وزندقة هذه سفينة يقودها القراصنة، ليس لهم مرفأ في الأرض، مهددة بالغرق. إني أخجل، كيف لحاكم يسمح لنفسه بسرقة ماء الله، من حق الشعب..» مما ولد صراعا بينه وبين السلطة.
لينتقل بنا المؤلف إلى المشهد الثاني، والذي بنيت أحداثه في فضاء السجن، حيث تم الزج بالشيخ فريد الدين العطار بقرار من الملك، لكن سرعان ما سيعدل عن قراره هذا عندما يعلم أن فريد الدين العطار هو مؤلف كتاب منطق الطير، فخشي أن يؤلف عنه كتابا يفضحه فيه ويجهض مؤامراته ويجعل منه عبرة لغيره …ولكي يصده، قام بإرسال رئيس حرسه، وحاجبه للاعتذار منه عن سوء المعاملة التي تعرض لها، مؤكدين له معاقبة كل من جهل قدره ومقامه بين أعلام الامة، ومحاولين إغواءه بهدايا ثمينة بغية إقناعه بتغيير الحق بالباطل، لكنه سيرفض ذلك إيمانا منه بقضية السقاء معروف، منحازا إلى نبد التوحد والتضخم السلطوي للحاكم وسطوه على خيرات شعبه دون حق مشروع، كما جاء على لسانه في أحد مقاطع المسرحية «فكيف أكون غير أنا إذا لم أحررهم من الصمت والخشوع والأوهام إنهم يبحثون عن حقهم في الارتواء واليقين…إنهم حجتي وموضوعي الجديد في تفسير لغة العطش» مما يبين موقفه الحازم في الدفاع عن الحق والوقوف في وجه كل من كان مشروعه هو فساد وإفساد لرعيته.
وفي مشهد ثالث، وداخل أحد الغرف، يوجد السقاء معروف مربوطا إلى عمود ويحوم حوله خدام الحاكم يحاولون إقناعه لكي يشهد زورا بأن الشيخ فريد الدين العطار هو من اختلق هذه الإشاعة ليلطخ بها سمعة الملك، وأن هذا الأخير لم يسبق له أن منعهم من الارتواء من ماء البئر، بل هو الحاكم العادل الذي دائما ما يقر به كحق مشروع من أبسط حقوقهم وفي مقابل ذلك سيخلون سبيله ويخلصونه من التعذيب، لكن السقاء معروف رفض بقوله « يا للعار، أأكذب عن شيخ الأمة، إني أهين عقل رجل حكيم، لم يخن نفسه يوما وقد أهدى لكل الناس ولكم بلسم الخلاص من مكر أنفسكم، لا لا إنكم تدفعونني إلى اغتياله بسكين صدئة من أجل إنقاذكم من الفضيحة». محققا بذلك المسكيني الصغير دينامية سردية من خلال قدرته على تمثله للحدث أكبر من حجمه وتصوير الشخصية في أقصى معاناتها وإقناع الجميع بعدالة ما تطرحه. وهذا ما عبر عنه المخرج المسرحي إبراهيم الهنائي في تقديمه لمسرحية منطق السقائين بقوله «مسرح الكاتب المسكيني الصغير مسرح رجل يعرفهم جيدا ولذلك يشبه لهم ليصبح كل البسطاء « لتأتي بعدها محاكمة السقاء معروف بتهمة التمرد على النظام الحاكم، لكن القاضي العادل امتنع هو الآخر عن حكم الزور ووقف بوجه الحاكم بالرغم من إغرائه بالمناصب العليا والهدايا مقابل النطق بحكم يتماشى والنظام فجاء قوله حاسما: إني أخون نفسي قبل أن أخون العدالة يا سادة، أرى بنودها افاعي تتلوى أمامي، تنتظر الانقضاض على كل من ينطقها، أنا أول المغتالين، …لا…لا…أيها الخادم أغلق الكتاب؟؟…
لينقلنا الكاتب إلى مشهد رابع واخير من مسرحيته، والذي اختار له فضاء خارج المدينه، حيث سيلتقي فريد الدين العطار بالسقاء معروف ليخبره أنه قد ألف كتابا جديدا موسوم بـ»منطق السقائين» والذي يفضح فيه ظلم الحكام، وأنه كان ملهمه في تأليفه، لتنتهي بذلك رحلة البحث عن الحق بانتصار المظلومين في مسرحية منطق السقائين.
وفي سياق المسرحية، يحضرني ما جاء في إحدى صفحات كتاب «الطاغية» للدكتور إمام عبد الفتاح إمام، حين استشهد برأي أفلاطون «إن أفلاطون يتنبأ بأن الشعب سوف يدرك مدى الكارثة التي جلبها على نفسه يوم ساند الطاغية وارتضى حكمه، إذ يقول: « إن الشعب سيدرك بحق، مدى الحماقة التي ارتكبها حين أنجب مثل هذا المخلوق ورعاه، ورباه، حتى أصبح أقوى من أن يستطيع الشعب طرده» ومنه يمكننا أن نخلص أن المسكيني الصغير عبر مسرحيته منطق السقائين، قد ناقش مفهوما جوهريا لأفلاطون وهو مفهوم الطاغية بوصفه حيوان ينشغل بالملذات المتقلبة والذي حتما ما يكون أتعس الناس وأشقاهم، إذ تجده يتحكم في توزيع الثروات حسب ما يخدم مصالحه الذاتية، ويتصرف في خيرات رعيته دون أحقية، ويسعى جاهدا ودائما إلى زرع الفتن لاستمرار الحروب بين شعبه وتسخير أتباعه للتضييق على الفئة التي تمتاز بالشجاعة وكبر النفس والحكمة والثروة لأنهم يشكلون خطرا عليه، محاولا بذلك نقل الرعية من الحرية إلى العبودية.


الكاتب : كريمة كربيطو

  

بتاريخ : 16/08/2022