النّاشر و المترجم خالد الناصري و الروائيّ كاتوتسيلا مبتهِجاَ بترجمة روايته
مِن الآدابِ المتوسّطيّة، ومِن الرّوايةِ الإيطاليّةِ بالتّحديد، نلتقي بكُم مجدَّداً في بدايةِ هذا المَوسمِ الثقافيِّ الجديدِ في قراءةٍ في نصٍّ رصينٍ ماتعٍ جميلٍ لجوزيه كاتوتسيلا ترجمَهُ عن الإيطاليّةِ يوسف وقاص وخالد سليمان النّاصري بعنوان «لكنّك ستَفعل»، وهو صادِرٌ عن دار النّشر «المتوسّط» ـ ميلانوـ لصاحبها النّاصري ذاتُه.
وغنيٌّ عن الذِّكرِ ما هو معروفٌ عن « المتوسِّطِ» من فَرادةِ منشوراتها إن على مستوى الشّكلِ بجَودةِ ورقِها و طِباعتِها و شَكلِ الكلمات، أو على مستوى المضمونِ بقامَةِ و وَزْنِ النّاشرِينِ بها، و ثُمَّ بإسهامِها الكبيرِ في نشْر الكتُب الفائزة بجائزة ابن بطوطة العالميّة للأدب الجغرافيّ.
غيْر أنّ ما هو غيْرُ معروفٍ هو أن يَكون الشّاعرُ و النّاشرُ الفلسطينيُّ المغتربُ خالد النّاصري مترجِماّ أيضاً و مُصمِّماً للأغلفةِ، وأن تَكون ترجمتُه ـ برأيِنا ـ من أحسَنِ ما يَكون.
كتَب النّاصري في الغِلافِ الخلفيِّ للرِّوايةِ باسمِه كناشِرٍ وهو يُقرِّبُنا منها:
«أريليانا، «خمسونَ منزلاَ من الحجارةِ ومئتا نسمة»، هذه البلدةُ التي يقضي فيها بييترو ونينا إجازتهما مع جدَّيْهِما، في صيفٍ فقدا في بدايتهِ أمَّهُما. عطلةٌ لا تشبهُ سابقاتِها، حيثُ السَّيلُ الذي لم يَعُدْ سَيْلاً، و القصرُ المهجورُ، والبرجُ النورمانديّ، وغطرسة العمّ روكُو، ملاّك الأراضي الأرعن الذي حكمَ على البلدةِ بالفقر و التخلُّف. ثمَّ اكتشاف عائلةٍ من المهاجرينَ مختبئةً داخل البُرج، وانقسام الأهالي بين رافضٍ لها وغاضبٍ على تواجدِها الغامض بينَهم، لكنّ ذلك، هو ما سيُشعِلُ فتيلَ التَّغيير ويزرعُ بذورَ الأمل في الجنوب.».
و الظّاهرُ من خلال هذا المَقطعِ أنّنا بإزّاءِ «رواية الهجرة»، و أنّ قراءةً فيها من هذا المنطلق لابدَّ وأن تُغنِيها وتُفِيدَ بالتّالي قارئها المفترَض. غيْر أنّنا ارتأينا القراءةَ فيها من زاوية اشتغالِنا.. المشترَك المتوسِّطي.
هذا الذي يَتبَدّى ـ علاوةً على شذراتٍ في النصِّ المادِّي ـ في جانبٍ آخرَ مُلحَقٍ وشِبهَ خفيٍّ لا يَنتبهُ إليه عادةً الكثيرُ من القرَّاءِ.. الهوامش. وما أدراك ما الهوامش. هذا من إيمانِنا الدّائمِ بأهمِّيَّتِها وعَدَمِ إمكانيّةِ عَزْلِها عن الجسمِ الروائيِّ وثُمَّ وأساساً للتّفصيلِ فيها (أيْ في الهوامش) لِكلماتٍ ـ كلِماتٍ ليس إلاّـ قد لا تَعني لنا أيَّ شيءٍ، ولكنّها في العُمق خَزّانٌ لا يَنضَبُ لحُمولةٍ ثقافيّةٍ تتجلّى في العاداتِ والتّقاليدِ والعُمرانِ والأطعِمة… غالباَ ما تَنفلتُ من المَحلِّيِّ الضيِّق إلى المتوسِطيِّ الرَّحب فتَفتَحُ البابَ لوَحدِها على دراساتٍ و أبحاثٍ و أطاريح.
وهكذا نُلفِي السّاردَ في مَعرضِ حديثهِ عن اليَوميِّ في المطبخِ الإيطاليِّ يَذكُر أسماءَ للماقارونا.. الأوريكييتِّي والكافاتيللي يُحِيل إليها في هوامش الصّفحة72 و الصّفحة74 على أنّها «أحد أشكال المعكرونة في جنوب إيطاليا»، و هي ذاتُ الأشكالِ التي نجدُها في تونس وإنْ بأسماءَ أخرى.
كما يُحِيلُنا السّاردُ في مكانٍ آخرَ، في الصّفحة 96، على هامشٍ يبدو تافهاً أو زائِداً يُفصِّلُ فيه إشارتَه في النصِّ إلى لُعبةٍ محليّةٍ اسمُها لعبة «سكوبا» ـ لعبةٌ ليس إلاّـ ولكنّها ستَكون مَثارَ اهتمامٍ ومَثارَ أسئلةٍ عندما نجد صورةً لها في بلدٍ آخرـ متوسّطي ـ بعيدٍ ليس مجاوراً لإيطاليا ولا استعمرتْه في يَومٍ من الأيّام.. المغرب. لعبة بتفاصِيلها ومفاصِلها و إن باسمٍ مختلف،
و إنّما فقطّ لاَ نَعرِفُ من نقلَها عن الآخر و كيف ذلك؟
«لعبة السكوبا هي لعبة ورق إيطالي شهيرة، يتمُّ لعبها من خلال 40 ورقة، تحتوي على الآس، 7،6،5،4،3،2، الشَّابّ (أو المرأة) الحصان والملك. يتمُّ مَنْحُها قِيّماً من 1 إلى 10 بالترتيب المذكور. يشير اسم اللعبة إلى حقيقة أن الفائز يأخذ عادة جميع أو على الأقلّ معظم الأوراق الموجودة على الطاولة، و لذا تُسمَّى سكوبا أو مكنسة (مقشَّة).».
ولعبةُ أخرى في الصّفحة164 ذكرَها السّاردُ في النصِّ باسم «نجمة، نجمتان، ثلاث نجمات» و فصَّل فيها في الهامشِ بأنّها «لعبة يقوم بها الأطفال في الشارع. أحدهم يَعدّ لغاية الرَّقْم عشرين وعيناه مغمضتان، ووجهه باتِّجاه الجدار…»
إنّها عندنا لعبة الغُمِّيضَة.
هذه اللّعبةُ التي ذُكِرتْ في النصِّ بصريح العبارة:
«في صغرنا، عندما كنّا نلعب الاستغماية، كنتُ أختبئ داخل الموقد، و لا يتمكَّن أحد من العثور عليَّ.» ص.21.
و لعلّ التسميّة هنا (الاستغماية) فلسطينيّة على اعتبار بلد مترجم هذه الرّواية، ما يُفِيدُ امتدادَ هذه اللّعبة في البلاد المتوسّطيّة.
وثالثةٌ غيرَ بعيدٍ في هامشٍ بالصّفحة168 نشتركها مع الإيطاليّين اسمُها عندهم «المورة» وهي «لعبة تقليدية تحظى بشعبية كبيرة في إيطاليا، و في بعض المناطق التي تطلُّ على البحر المتوسِّط. تستند قواعد اللعبة إلى تخميس مجموع الأرقام التي يتمُّ عرضها بالأصابع من قبَل اللاَّعبين بالتزامن، وهي من اثنَيْن إلى عشرة»، وهي بدَورِها معروفةُ في المغرب. ونَختم قبْل العُروج على النصّ، وبعد هوامش المشترَكِ الإنسانيِّ الرّفيعِ الذي لامسناه بين البلاد المتوسّطيّة، بهامشٍ أسوَد يَختزلُ تاريخاَ مظلماً من العداواتِ والأحقادِ والحروبِ بين بلدان البحر الأبيض المتوسّط أحال إليه السّاردُ عندما أتى على ذِكر «عذراء فيجّانو السوداء». و تفصيلُه ما يلي:
«شفيعة مقاطعة (لوكانيا) بازيليكانا، يقع حِرْزُها المقدَّس على قمَّة جبل فيجّانو في المقاطعة نفسها، وتحوَّل التمثال الأسود، لأن سُكَّان مدينة كرومنتو اضطرُّوا إلى إخفائه في شَقِّ، يمكن مشاهدته حتَّى الآن خلف الكاتدرائية التي أُقيمت احتفاء بها، بعدما دمَّر الساراسين (العرب و المسلمون بشكل عامٍّ كما كانوا يُسمُّونهم آنذاك) مدينَتَهم في القرون الوسطى.» ص.33.
وإذا كانت الهوامشُ هنا ـ كما رأينا ـ تَشي بما نَرمي إليه من إجلاءِ المشترَكِ المتوسّطيِّ في هذه الرّوايةِ و قراءتَها على ضَوْءِهِ وعَتَمتِه، فإنّ في النصِّ الرّوائيِّ أيضاً ـ و بدرجةٍ أقلَّ ـ وهو يَتَخدُ موضوعاً له غيْر ما نرمي البحث فيه إرهاصاتٍ لهذا المشترك، تَنفلتُ من عَرْضِهِ العَرَضيِّ والمُمَلَّح لمجموعةٍ من التّشبِيهاتِ والطّرائفِ والأمثال.
ففي التشبيهاتِ ما يَشي بالمُشتَركِ الجغرافيِّ المتوسِّطي.. البِحار وما تَحوِيه من ثروةٍ سمكيّةٍ يَعتمد عليها هذا الإنسانُ المتوسّطي في معيشته، فجاز لنا بالتّالي التربُّص بها في تشبِيهاتِه و أمثالِه:
«وترك العجوز واقفا مثل سمكة مُجفَّفة» ص. 107.
كما تَحضُر في النصِّ الروائيِّ عبْر وسيطِ التّشبيهاتِ دائماً إحدى العلاماتِ الدّالّةِ على الخروج في المغامراتِ و الاكتشافات البحريّةِ المتوسّطيّة.. الشِّراع.
«يبرز منه فقط ذلك الأنف الكبير الذي يبدو كشراع» ص. 269.
كما يَستدعي هذا النصُّ إحدى القيَّمَ الإنسانيَّةَ النّبِيلةَ المتأصِّلةَ في الإنسانِ المتوسِّطي.. الكَرَم:
«ماذا تُحبُّ أن أُقدِّم لكم؟ سألتْهُ الجَدَّة. لا يمكن لأحد في أريليانا أن يقول كلمَتَيْن في بيون الآخرين قبل تناوُل شيء ما. كانت هناك علبة مفتوحة من البونبون على الطاولة.». ص.182ـ183.
ومعروفٌ عن كامل البلاد المتوسِّطيّة من تَقاسُمِ الطّعامِ وكَرَمِ الضيّافةِ لَمّا أدرِجَتْ الحِميَةُ المتوسِّطيّةُ سنة 2013 في القائمة التمثيليّة للتّراث الثقافيّ غير المادّي. وقد يبدو من الطَّريفِ والعجيبِ والغريبِ أن نجدَ «القيلولة» واردةً في هذا النصِّ أكثرَ من مرَّة:
«في عصر أحد الأّيام، و بينما الجَدُّ و الجَدَّة يغطَّان في قيلولتهما…» ص.124.
«بعد الغذاء، و حين كان الجَدَّان يغطَّان في قيلولتهما…» ص.152.
ولكن عجبنا استغرابنا سيَزولان سريعاً عندما نَكتشف أنّ عادةَ القيلولةِ كانت شائعةً قبل زمنٍ بعيدٍ في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسِّط، هذا في زمنٍ كانت فيه تقلُّ أو تكاد تختفي في أماكن أخرى مثل أمريكا.
بل أكثر من هذا أنّ ثمّة مدينةً في جزيرة صقليّة هي «كتانيا» تسمّى بالعاصمة الوطنيّة للقيلولة.
وعادةٌ أخرى.. تدلّي عناقيدَ الثُّومِ والفُلفُلِ أمام البيوت.
«في الخارج، و على الجدار، تتدلَّى من كُلاَّبات حديدية صدئة أربعة صفوف من الفلفل الأحمر ورؤوس الثوم المتروكة، لتجفِّ في الهواء.» ص.28.
وهو ذاتُ ما عايّناه خلال مُقامِنا بتونس.
لقد أجادت تّرجمةُ النّاصري هاته ـ التي تَكشِفُ أيضاً عن أنّه شاعرٌ كبيرـ الإبحارَ بنا في عوالِمِ كاتوتسيلا الإبداعيّةِ والفنّيةِ والرُّسُوَّ بنا من خلالها في مَرافىءِ المشترَك المتوسِّطيّ.
وعلى العُموم، فإنّ هذه الرّوايةَ و إن كانت «روايةَ هجرة» تَنتصرُ في النّهايةِ للمهاجرين لمَا لهُم من فضلٍ في فتْحِ أعيُنِ السكّان الأصليِّين على قيَّمِ التّسامُحِ وأنْ لا أحد أحسَن من أحد.. «و في النهاية، اضطرَّ الجَدُّ للاعتراف أنّ فكرة الأجانب فكرة رائعة وقد تكون الفرصة التي انتظرها زمناً طويلاً، يعادل عمراَ كاملاَ» ص.198. و إنعاشَ ذاكرتَهم كحَفدةٍ لمهاجرِين سابقِين.. «سيأتي المزيد منهم ، قريبا، سترون، سوف يفعلون مثلما فعلْنا نحن في ألمانيا وأمريكا. سوف يجلبون وراءهم أعمامَهم وأحفادَهم.» ص.96.
وفي كلِّ هذا وغيْرِه ممّا يُضمِرُهُ هذا النصُّ ويُعلِنُهُ مِن كلِّ ما هو إنسانيّ، يَظَلُّ مفتوحاً على قراءاتٍ لا تُعَدُّ ولا تُحصى…
* طالب باحث في سلك الدّكتوراة، آداب و فنون متوسِّطيّة