قراءة نقدية ثقافية .. النسق المضمر في حكاية «عوظم البطل»

* حكاية من دوار بوسموم إقليم طاطا

تركز الدراسات الثقافية على أن أهمية الثقافة ترجع إلى امتدادها وتوسعها. فهي ترفض ثنائية الرفيع والوضيع. فكل تعبير يستحق الاهتمام. وأفضل ما تفعله هو رصدها لعملية الإنتاج والاستهلاك الثقافيين، والكشف عن مقدار الشحن الثقافي في خزان اللاوعي الجمعي.
وللدراسات الثقافية الفضل أيضا في الانتقال من النص إلى الخطاب. تأخذ النص بما ينكشف عنه من أنظمة ثقافية، فالنص ليس هو الغاية، بل الغاية الأنظمة الثقافية في أي تموضع كان، بما في ذلك التموضع النصوصي . وتطلق عموما على مجمل الدراسات الوظيفية والتحليلية والنظرية والنقدية بينما يشير النقد الثقافي إلى الممارسة النقدية ومناهجها، وما الفرق بينهما إلا لغرض التنظيم المنهجي.
وتسعى هذه الدراسة التطبيقية إلى الكشف عن النسق الثقافي المضمر داخل نسيج حكاية «»عوظم البطل» لفك شفرة العيوب الثقافية الكامنة فيها.

مفاهيم إجرائية:
أ ـ النقد الثقافي:
يعد النقد الثقافي نشاطا فكريا يتجسد إنشاء لغويا ينتسب إلى الثقافة culture التي تحدد بدورها طبيعته ووظيفته وحدوده، كما تحدد هويته التي تميزه عن غيره من ألوان النقد الأخرى، فهو نقد ثقافي. إنه موصوف (نقد) وتتحدد هويته بصفة (ثقافيا) المستمدة من الثقافة بتجلياتها المادية وغير المادية، أو المعنوية، غير أن النقد ينطوي على خلافات تتصل بدلالاته المتحولة عبر الزمان والمكان، وما يتصل بمصطلح الثقافة من إشكالات محكومة بالمكان والزمان والبيئة المعرفية الخاصة به.
ويؤكد أرتر ايزابرج على أن النقد الثقافي نشاط وليس مجالا معرفيا قائما بذاته، فهو يتميز باستخدامه وتوظيفه للمفاهيم والنظريات التي قدمتها المدارس الفلسفية، واللسانية، والاجتماعية، والنفسية، والسياسية والأنثروبولوجية وجعلها تعمل معا من أجل فكّ الشفرات الظاهرة والمضمرة، أي الواعية واللاواعية، في داخل البنيات الثقافية في المجتمع. وبعبارة أخرى فإن النقد الثقافي يدرس بواسطة التحليل النقدي مجالات الفكر والفلسفة والآداب والظواهر الثقافية والفنون في تنوعها واختلافها ووسائط الاتصال والإثنيات وغيرها من الظواهر التي تدخل في نطاق الثقافة، مثل الثقافات الشعبية والجماهيرية والثقافات المهمشة.
ب-النسق الثقافي:
يعتبر الغدامي مفهوم النسق مركزيا في المشروع النقدي الثقافي، «ويتحدد عبر وظيفته، وليس عبر وجوده المجرد، والوظيفة النسقية لا تحدث إلا في وضع محدد ومقيد، وهذا حينما يتعارض نسقان أو نظامان من أنظمة الخطاب أحدهما ظاهر والآخر مضمر. ويكون المضمر ناقضا وناسخا للظاهر». فالمضمر من حيث هو دلالة ليس مصنوعا من مؤلف، ولكنه منغرس في الخطاب، ألفته الثقافة، ويستهلكه عموم المتلقين.
يتجه هذا النقد إلى كشف وإزالة الغطاء عن حيل الثقافة لكشف أنساقها المستترة السلبية المتحكمة فينا. فالبلاغة هي أشد أنواع الحيل، التي يستقبل بها المتلقي النص، ويحسبه جميلا، دون أن يحس أنه يستهلك معه القبح. فقراءة النصوص والأنساق كحالة ثقافية يقتضي التوجه إلى النص كحادثة ثقافية متجاوزا الجمالي والنصوصي.
أما الرؤية المنهجية فتستدعي اشتغالا نسقيا يتعدى ويتجاوز النصوصي الجمالي المخاتل إلى البنية الثقافية للنصوص، لاكتشاف ظروف تشكلها. ولِمَ تم بناء هذه الأنساق، ثم لفها بغلاف جذاب؟
3- نسق الفحولة في الحكاية
اهتم الغدامي بالفحل الشعري الذي تحرسه الثقافة. ويشير إلى أن الذات العربية صارت «كائنا شعريا تسكن للشعر، ولا تتحرك إلا حسب المعنى الشعري الذي تطرب له غير عابئة بالحقيقة»، وترتبط الفحولة بالمكون الثقافي، وقد نجد الفحل النسقي انتقل وترحل من الشعر إلى السرد ليستقر بعد ذلك في الذهنية الثقافية ويتحكم في كل خطاباتنا وسلوكياتنا.
تتصل الفحولة مباشرة بوجدان القبيلة الشغوفة بالحكايات. وفي ضوء قراءتنا للنقد الثقافي، يتبين هذا النسق في هذه الحكاية الجنوبية انطلاقا من عنوانها «عوظم البطل» الذي حمل دلالة ثقافية واضطلع بوظيفة إخبارية، فهذا البطل اسمه «عوظم» فهو عظيم كما جاء في عتبة العنوان.
تبدأ صناعة الفحل من مراحل الطفولة وما بعدها. سيخرج عوظم للعب الكرة «كان فواحد القبيلة واحد الشاب أسميتو عوظم أوعمو ساكن فقبيلة بعيدة عليهم. فواحد النهار، عوظم مشا يلعب الكورة مع قرانو أو كانت حداهم واحد العجوز تمخض الشكوة فم خيمتها. أو ضربها عوظم بالكورة أوگالت ليه العجوز: «هوهو فيا يا عوظم فاش بيت تورد كورتك يلا عدت شي سير لبنت عمك راه بيكلها ليك لحنش». فهذا البطل ستتحداه العجوز التي أصابها بالكرة. إن كان فحلا فعلا فعليه أن يذهب ويخلص ابنة عمه الأسيرة في قبيلة أخرى. فهذا الصراع النسقي الذي يجسد وظائف الفحولة في البنية العميقة حول قيم الاستفحال المتخفية وراء النصوصي؛ يجب أن يتوج بهزم وإلغاء القبيلة الأخرى ظالمة أو مظلومة. وهذه قيمة جاهلية مركزية، ألم يقل زهير بن أبي سلمى في منظومته الحكمية القيمية (ومن لا يظلم الناس يظلم)، ثم إن هذا الظلم جوهر قيمي وليس رد فعل ظرفي، فهم طغاة ظالمون بطبعهم. هذه منظومة من القيم التي تضعها هذه الحكاية كعلامة نسقية.
فالبطل/ الفحل يستعرض آلية تعذيبه للعجوز التي أومأت له بما تعانيه ابنة عمه دون أن تقدم أدنى توضيح عن مكان أسرها. لكن جراء التنكيل بها اعترفت بمكان تواجدها. «خلاها إلين دَارتْ أيدها أوغوصها ليها فلعصيدة اللي سخونة، وگال ليها: مانى طالقك إلين تگولي ليا وين عايدة بنت عمى» فهذا عقاب لها جراء كلامها. كان عليها أن تصمت كما هو مقرر لها في البنية الثقافية المركزية الذكورية. فهذه الحكاية تدعم مفهوم التسلط البطريركي وتطرح المرأة الطيبة بوصفها امرأة صامتة وتابعة. وتأـتي أهمية المرأة الصامتة في الارتباط القوي بين الكلام والقوة. الكلام في الحكايات الشعبية مرتبط بشكل أساسي بالسلطة، والأشخاص الذين يمتلكون السلطة عادة ما يكونون ذكورا.
يتمظهر نسق الفحولة بازدراء الأنثى التي تجلب العار والفضيحة للقبيلة، فهي لا تستطيع أن تواجه المخاطر والصعاب، ولا تستطيع أن تنقذ نفسها من الأذى فهي في هذه الحكاية بحاجة إلى ابن عمها. تقول الحكاية: «وراتوا العجوز وين عايدة بنت عمو. طلقها عوظم وركب على حصان ومشى. لحگ عوظم القبيلة مع لعشية ولگاهم جايبين بنت عمو للحنش باش يتعشا بيها. نكز عوظم من فوگ حصانو، أوجبد سيفو أوگال لحنش ضرب ولا نضرب. أوقتل لحنش وتهنا منو، گال لِه عمو: نتا اللي نجيت بنتي من الموت، بغيت نعطيها لك تزوج بيها أوعطاه عمو قطعان ديال الإبل والخيل والغنم». وهاهو»عوظم» يشدو على أنغام الناي على طريقة أرفيوس، لكي ينتقل بأمه من الحزن إلى الفرح بعد نجاة ابنة عمه. تقول الحكاية: «رجع عوظم لعند لقبيلتو، أول ملگا هما شي ولاد عند الساگيا رافدين عوادة يصفرو بيها ماعرفو ليها، شدها معندهم أوصفر بيها أوگال: «يا لهوجا يا لهوجا گولي لْمّا ها عوظم جا تْفْجِي لغْمَّا».
في ظل هذا النسق، جرى تقديم المرأة. أنها عاجزة. فعليها أن تشقى وتعاني وتحزن حتى يأتي الفارس الذي سيحررها. هكذا تفعل الثقافة فعلها في السرد من أجل أن يحيا الفحل. فجميع الحكايات تحمل أنساقا صريحة ومضمرة. فهذا النقد الثقافي بعدته الإجرائية جاء ليتجاوز النص إلى النسق.


الكاتب : عبد الرحمان محي الدين

  

بتاريخ : 24/09/2022