قرار أم فرار؟ 

من المحطة الأخيرة، يقترب الميترو، أرفع رأسي بعدما كانت عيناي مسمرتين على هاتفي، لأكتشف أن كل المقاعد حولي أصبحت فارغة، وأني الراكبة الوحيدة التي لم تغادر بعد.. أول ما قفز إلى ذهني وأنا أوضع في إطار تلك الصورة من فيلم « أنا أسطورة» بطله ويل سميث « إذ بقي وحيدا بعالم خذله وأراه – وهو يقاوم مع كلبه – ليستمر في الحياة من سيناريوهات الرعب ألوانا، ما زكى استحضار تلك المشاهد، حلول الليل وانتشار ظلام اخترقت عتمته أضواء مصابيح خجولة، أرمقها عبر نافذة الميترو وهو يوشك على التوقف بعدما أعلن مكبر الصوت عن اقتراب وصولنا إلى خط نهاية السير ..
عند توقفه، بخطوات بطيئة أنزل، وبنظرات خاطفة أتجول بالمكان الذي اخترت النزول فيه، ما زلت أجر معي خوفا بدأت بوادره بالميترو، هو خوف لا يدور في والرعب الذي شهده بطل الفيلم مع كلبه، لكنه حذر ملون I m Legendفلك
بمزيج من توقعات مرتبكة وتخوف فاتر.
أدرك جيدا أن وضع ذلك الشعور أمامي، هو عرقلة لي أثناء الطريق، وأنه عربة تسبق الحصان.. حمى اتخاذ القرار الحاسم، ترتفع درجتها، وتجعلني أرى وجوها، تفوق ألوانها عدد ألوان قوس قزح، العيون بها توقعك بيد وتلتقطك بالأخرى، طريق زلق أجدني أتورط في مشاويره وهي إلى الخلف تشدني، بل !تحثني على التقدم إلى الأمام…
لا هذا ولا ذاك، هي تترقب بفضول كبير نزولي مني وصعودي السفينة المبحرة في الغرق.
الملل من هذا التفكير الجارف، باب يطرقني، ينبهني، إلى أن الصور المتشابهة أمامي، موت جديد يفكر في ضمي إلى لائحة فتوحاته.
الطريق تطول وأنا إلى البيت أتوجه، هناك تناغم بين صوت كعبي العالي الذي أنتعله وصوت ما أفكر به، قد يكون ذلك القرار فرحا غافلا، معدةَ الحزن به تُمْلأ..
!التفكير المتكرر، ظله ثقيل، بيد معتمة نحو فراغ سحيق يسحبني
فراغ أبكم، لا يجيد استعمال الإشارات ولا الصراخ.
«الجو المتقلب يفسح للغيوم الممطرة التكاثر بأحضان السماء، إسألي الرياح التي تهب فوق أنفك، ولا تتحاشَي تلك الأحاسيس غير المستقرة، والمتهاطلة بعقر تفكيرك..
من يدري، قد تكون فرملة، تتيح لطيورك المهاجرة العودة إلى أغصانك !أين ستبني أعشاشها لتغمرك بحياة جديدة أجمل ..» أخاطبني بصمت مرتفع
على أي ، لا الفرح، عنده أتوقف
ولا الحزن به أستجير
القطار لا ينتظر
ومضيعة للعمر، التوقف عند أطلال كانت من دمعي تسخر .. لا أريد أن يدخل بي النسيان مناطق ممنوعة، ليعيدني إلى خط ما قبل البداية، كما تُعاد ريما إلى عادتها القديمة، ذلك هروب يستعير عيون الآخرين للنظر داخلي.. وأنا لست مستعدة أن أقضي ما تبقى من عمري في النظر بعيون غيري والاستماع بآذانهم، والابتسام بملامحهم.
قبل وضع المفتاح بالباب، أفاجأ بهذا الأخير وهو على مصراعيه يفتح، ابني يحفظ جيدا موعد وصولي إلى البيت، وما يؤكد له ذلك، وقع كعب حذائي على السلم وأنا أصعد إلى الطابق الثالث..
« ماذا سنتناول كوجبة عشاء؟ «
«غير قليلا من تحيتك المسائية هاته، لأنتعش أكثر باستقبالك الحار لي يا صغيري الكبير»
بضحكة عريضة أرد على بدر، ثم أتوجه إلى المطبخ لتحضير وجبة العشاء..
في غمرة ضحك هستيري، من لقطات لفيديو بهاتفه، أسمعه يقول:
«أحذر يا أمي شهرة، تضيف تاء للشين، وياء للهاء من حيث لا نعي أو ندري»
ثم يضيف متهكما: «هل للصدفة يا أمي يد في تواجد نفس الحروف في كلمتي «تفاهة» و»هتاف»؟..
بابتسامة عريضة أستمع إليه، وأتذكر أنه حين تصبح الابتسامة شلالا،
فإنها أرض الألم تطأ أيضا.
ألمٌ يتربص بما تبقى بي من جمال، لكنه لا ولن يستطيع إطفاء نوره
وإن تكسرت فوق رأسه كل المصابيح
واختار له ما يسكنه من ظلام مقاما
هو بي كأوراق شجرة في اتجاه الرياح تهب
لكن بأغصانها تتمسك..
لازالت نبرة « دِّي وْ جيبْ» جدران رأسي تطرق، لأقاطعها بتدوينة لمي زيادة بعثتها لي صديقتي عبر الميسنجر دون مقدمات في الصباح الباكر، تقول فيها مي: « اكتشفت أن حقوقي لا تتعدى حق الأكل، والشرب والإنجاب، والموت»
لم أتأخر في الرد قائلة بكل ثقة: «من شدة حرص الكثير منهن على تزيين أقفاصهن، صرن يرون أن حقوقهن بين قضبان ذلك المكان تنحصر، وليس خارجه.»
لم أعد أميز بين صدى الصمت وصدى الضجيج، كلاهما يحالفان دندنات الألم بما يجتاح الراس والساس من « دي وجيبْ.»
أصعب المخاضات، قرار متردد، يطل على خط الوصول، ثم ينزع حذاءه الرياضي للاسترخاء، بنية الاستعداد لتخطي ذلك الخط بوضوح الشمس فنهار جميييل…
عبر الوات ساب هذه المرة، تخبرني بغضب جميل أنها ستقشر وجه الندم، ستغذي مسامه بكريمات الألم، بعد نضج جلده ستلبسه اسما جديدا،
اسما لا يطفو كزيت فوق ماء العيون.
سيكون اسما يحرص على وقاية بشرته من الحروق المختلفة الدرجات، اسما يضع نظارة شمسية تجيز له دخول الكهوف دون الإدلاء بهويته..
أرد عليها برسالة صوتية قائلة:» لن يولد القرار فعلا، وأنت بجناحي الخوف ترفرفين..
!ألا تعلمين .. أن الحياة لا تحب الجبناء؟
النجوم الخافتة تلفظك
ومكبر الصوت المبحوح النبرة، يلقي بك في تيه ذبذبات الصدى
والمنبر الأعرج تحت قديمك يتصدع..
تلك إشارات إلى سلام ركنته على رف ذات غفوة، عودتَك ينتظر
فلا تبكي سقوطا أراد به خيرا..
تُذَكِّرينَني بمحمود درويش وهو يقول:» قرب حياتنا نحيا ولا نحيا، كأن حياتنا حصص من الصحراء مختلف عليها بين آلهة العقار، ونحن جيران الغبار الغابرون، حياتنا عبء على ليل المؤرخ.»
لذت بالصمت قليلا ثم أتممت رسالتي كتابة
«لا تكوني كالأضواء التي تتعلق وتتسلق المصابيح
كوني النور الذي يستبعد حياة له في ظلهما
الأبواب فينا تنتظر يد الابتسامات لفتحها .. ابتسامات بدواخلنا تنضج..
وإياك أن تعولي على العيون البكماء التي تحمل قلبا ضعيف النظر..
المحبة لا تملك خزانة ملابس، وحافية القدمين إلينا تسعى، بل بنا تزهر.
فلنقاوم عزيزتي بالابتسامة، ولنصر على امتطائها.
أنا من النوع الذي لا يذكر اسم الذين يحبهم كثيرا بأسمائهم إلا بعد ذكر ملامح من جمالهم..
سخريتي مالحة لا تفي بالارتواء… العطشَ تحرض
والتصحرَ تثير..
عييت من « الهَدْرَة» مْعاك
عضلات مفشوشة تلك الهدرة
أتدرين لِمَ هي كذلك..
أنتظر ردها، لكنها بالصمت تجيبني
فأعود إلى إتمام التحدث إليها عبر رسالة صوتية قائلة: « حقوق المرأة ليست هدية تعطى، حقوق المرأة أسلوب حياة تعكس معدن أخلاقيات مجتمع..
أتعلمين أن المكان حين يخذلني، أطلب اللجوء في الذاكرة، لكني أجيد فيها تحويل الماضي إلى مقبرة. كَنْفَكر نْهَزْ راسي وأواجه عتمة النفق
لأنني أومن أن الحزن من شأني
والفرح من ممتلكاتي، وعلى قدر المنقار يُلتقط الحَب.
!كم أحن إلى الطفلة التي تركتها في الزحام خلفي
لتذرف معي دموعا ليست للبكاء، ولا للتباكي، وإنما للاغتسال.. ارتطام جميل بي !أراه، كارتطام الماء العذب بالصخور
هذا هو الفرق بيننا وبين قلوب من مشتقات الموت تنحدر، وإن ادعت الحياة
أخبَروني أن الصبر زينة العقلاء
لكنهم لم يعلموني حدوده..
فقررت الإنفاق من عمري أملا وآلاما لأصل إلى بعض تلك الحدود، أثناء ذلك فقأت عيون الحظ اللعوب ففررت من نافذة غرفة انتظاره، أهدهد الأيام حتى هجر الثغر الابتسام.
ارتباطنا الشديد بالحياة، ينسينا مواعيد الموت المفتوحة ..وذلك مفتاح من المفاتيح التي تعمدت القفز من جيبي، فقط لتتسلى بحيرتي..
أعلم أنّ الانتصار، أنْ أحب الحياة
وأنا من التعلق بها جيوبي أفرغ..
من باب «رجوع لله»
أعود إلي..
فبي أشياء جميلة في انتظاري، رضوى عاشور، الله يذكرْها بالخير تقول:»
أنا بطبيعتي مقاتلة، ولكنني بلغت قدراً من النُضج يسمح لي بالتمييز بين معركة يمكن أن تحقق أهدافها، ومعارك لا جدوى من خوضها»
!كم صفقت لهذه السيدة وأنا أقرأ لأول مرة كلماتها هاته
وخاصة وهي تحيلني على حزن هو فرملة قوية لفرح مفرط في السرعة.
لا مكان للحكمة في ما تبدين من صمت يا صديقتي
تكلمي لأراك، هذا ما يخاطبنا به الوقت والموقِف
على رف العدم، للقلوب المتقلبة ضعي مكانا.
اللغة لا تسعف الكلام، والصمت يلوي ذراع الصبر
خارجي، لا أبحث عني طويلا، فالنملة العرجاء تدرك أن عافيتها بيد ما تبقى لها من أرجل ستُسْتَرْجَعُ، وليس بجناحين لم يولدا في ما يراودها من أحلام..
حتى لا تذيبني الاحتمالات، وتعبث بما يجري بي من أحاسيس سائلة، آيلة للسقوط بسوق العيون، أنسب الاعتياد إلى ثعلب ماكر، يُدْخلنا قفصا أصغر من حجمنا، لا نعرف الخروج منه…


الكاتب : سعيدة لقراري

  

بتاريخ : 11/11/2022