قرية أولاد مومن قرب مراكش … الجفاف يطرد الفقراء ويفتح شهية الأثرياء

كلما اكتظت السماء بالسحب يرفع عبد الحق نظره متطلعا إليها عسى أن تمطر ماء يغير من بطش هذا العطش الذي أصاب أرضه، لكنها تمر سريعا ليقول «إنها سحابة عاقر». يعيش عبد الحق كأمثاله من أبناء دوار أولاد مومن بجماعة أولاد حسون على بعد 22 كلم من مدينة مراكش، خيبة مريرة بسبب موجة الجفاف التي تضرب المنطقة على غرار باقي ضواحي المدينة الحمراء. فقد مر الخريف بشح لا نظير له في التساقطات ويكاد فصل الشتاء ينصرم بنفس الإيقاع مخلفا قلقا كبيرا في نفوس السكان الذين باتوا يجدون صعوبة كبيرة في تأمين ما يلبي الحاجيات الدنيا من المياه.

الجفاف: نكبة للأرض والحياة

في طريقنا إلى أولاد مومن كان المشهد بتناقضات غريبة: ضيعات كبيرة بخضرة لا تخطئها العين تكاد تقنعك من فرط نضارتها أن الجفاف مجرد إشاعة، وأراض ممتدة بتربة متشققة وأشجار استسلمت للموت ولم يعد منها سوى الهياكل الرمادية، وبقايا عشب يابس وأسوار آلت إلى خراب يشي وضعها أنها أراض هجرها أصحابها.» ليس هنا ما يدعو للاستغراب» يقول أحمد بلحوشة البالغ من العمر 44 سنة، والذي يرعى بدوار أولاد مومن أرضا صغيرة بأشجار الليمون، ويضيف « كل أرض هنا تعكس أحوال أصحابها، تلك التي تراها خضراء بأشجار يانعة في ملك أثرياء تسمح لهم إمكانياتهم المادية مواجهة ندرة المياه، فهم ينصبون الألواح الشمسية ببطاريات تخزين الطاقة مع شبكة متطورة للري الموضعي وخزانات ضخمة، ولا تعوزهم الوسائل لتعميق آبارهم كلما نضب ماؤها. أما الأراضي القاحلة فهي لمزارعين بسطاء، ليس في يدهم حيلة، دمرهم الجفاف بعدما لم يعد في آبارهم سوى الخواء أو القليل من الماء لا يكفي للسقي.»
مساحات شاسعة فقدت فيها التربة نضارة حمرتها وصارت أقرب إلى اللون الرمادي بفعل العطش الحاد وغياب ملامح الطقس الرطب الذي يساعد في تطعيم هشاشتها، لاعشب أخضر. بعض الأراضي تحتفظ بآثار الحرث « في الخريف كان للناس أمل، لذلك عمدوا إلى حرث أراضيهم استعدادا للموسم الفلاحي، لكن السماء كانت قاسية عليهم.. يمكن أن نفهم جسارة هذا المجهود إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الحرث بالجرار يكلف هذه السنة 150 درهما للساعة الواحدة، بالنسبة لأحمد، فالزراعة المعاشية المنتشرة هنا لها مردودية اجتماعية مهمة تعين الأسر على التماسك قليلا في مواجهة الفقر. لكن الجفاف أضعف قدرتهم على المقاومة.
الجائحة الحقيقية هنا ليست هي كورونا، وإنما الجفاف الذي ضرب موارد الناس وعرض الكثير من الأسر إلى البؤس الذي عمقه غياب الدعم من أية جهة..» يضيف أحمد.

الجفاف سيء لكن
الإهمال أسوأ

بأولاد مومن وجدنا عبد الحق منهمكا في العناية بحديقة صغيرة لبيت أحد أبناء القرية مقيم بالعاصمة الرباط. عبد الحق ( في الثلاثينات من عمره) كالكثيرين من شباب المنطقة ترك أرضه وانصرف إلى الخدمة كبستاني. لم يكن القرار يعود له، وإنما بإكراه من قهر الجفاف، الذي جعل الاشتغال على أرض قل ماؤها وتكاد آبارها تجف، نوعا من العبث ولاسيما أن فصل الشتاء يكاد ينقضي دون أن تجود السماء بما يشبع تطلعات الأرض. «مرت شهور ونحن رهائن الانتظار، عيوننا كل يوم معلقة في السماء، نرى في الأفق لنحدس موعدا قريبا لتهاطل المطر، لكن بلا جدوى. خابت توقعاتنا، وتعرضت مزروعاتنا للتلف، ومن استطاع منا الحفاظ عليها يعاني كثيرا بسبب تناقص منسوب مياه الآبار.» يستفيض عبد الحق بمرارة في تلخيص تجربته مع الجفاف.
لم يكن عبد الحق الوحيد الذي اضطر إلى تغيير انشغاله من الاهتمام بأرضه إلى عمل آخر لدى الغير، بل يؤكد أن أغلب أبناء المنطقة انصرفوا عن الفلاحة إلى أعمال أخرى. «كثيرون ـ يقول عبد الحق ـ يغادرون القرية في الصباح الباكر في اتجاه مراكش للبحث عن عمل، منهم من تحول للعمل في أوراش البناء أو حرف أخرى، لأنهم اقتنعوا أنه لم تعد هناك من جدوى من الفلاحة ولاسيما أنه ليس هناك أي دعم أو مواكبة من قبل المصالح الحكومية المعنية رغم تضخم الحديث عن المخطط الأخضر وعن مبادرة التنمية البشرية.. ولهذا السبب فالكثير من الأراضي معروضة للبيع « .
الماشية مشكل الجفاف الأكبر
عمر .ب من القلائل الذين مازالوا يقاومون من أجل الأرض والفلاحة، فهو يعتني بقطعتين فلاحيتين متباعدتين تفصل بينهما مسافة تزيد عن ألفي متر. إحداهما جفت بئرها، لذلك كان عليه أن يجلب لها المياه من بئر القطعة الأولى لاستدامة حياة المزروعات بها.» كان علي أن أمد القنوات البلاستيكية على طول هذه المسافة الطويلة التي تفصل مابين القطعتين.. ولكي تدرك حجم المجهود المالي الذي كلفني ذلك، يكفي أن تستحضر أن سعر هذه القنوات يبلغ 28 درهما للمتر الواحد. والمشكل الأكبر هو أن منسوب مياه البئر المتبقية بدأ يتناقص..» .
يعلق أحمد بلحوشة على هذا الوضع قائلا» بسبب الجفاف تناقصت مياه بعض الآبار بأزيد من عشرة أمتار.. والمشكل أن السلطات تمنع تعميقها..»، يقاطعه عمر « ليس هذا وحسب، بل هناك محنة أخرى تتعلق بالماشية التي أصبحت عبئا ثقيلا بسبب الجفاف الذي أدى إلى ارتفاع أثمنة التبن والنخالة. ونظرا لضعف موارد السكان أضحوا عاجزين عن تأمين الكلأ، بالطبع الأرض قاحلة لاعشب فيها، لذلك فأحسن حل لهذه المعضلة هو بيع مواشيهم. وهنا بالضبط تتضاعف هذه المحنة لأن لا أحد يرغب في شرائها. البقرة التي اشتراها صاحبها بـ12 ألف درهم لم تعد تساوي في السوق حتى 6000 درهم، وهذه تجربة شخصية عشتها..» .

المقالع مصيبة أخرى

في تجوالنا بين الحقول في قرية أولاد مومن كانت وجوه النساء والأطفال والرجال تعكس مدى المحنة التي يعيشها سكان المنطقة بسبب الجفاف. الأمر لا يتعلق فقط بملامح القلق التي تبدو واضحة عليهم، وإنما أيضا اليأس الذي يغزو نظراتهم جراء ما يمكن أن يحدث إذا ما استمرت موجة الجفاف. تقابلهم حقول من الزيتون بدت أشجار الكثير منها قد استسلمت إلى موت بطيء. ونحن نتوغل بين هذه الجنان المحتضرة لاحظنا تدفق ساقية تندفع فيها المياه، كان أمرا غريبا في مكان أجمع فيه كل سكانه على معاناة الجفاف الحاد. « إنها مياه مقلع الرمال المحادي للقرية المنصوب في وادي بورويحات، يقول أحمد، وهي المياه التي استعملت في غسل الرمال المستخرجة يتم تصريفها هنا، وبضغط من قلة المياه يجد بعض المزارعين أنفسهم مضطرين لاستغلالها في سقي أراضيهم رغم المشاكل البيئية التي تنجم عنها…» .
مقلع الرمال هذا يشكل أحد عوامل تفاقم أزمة المياه بقرية أولاد مومن. فهو ، كما يقول أحمد، مصدر شرس لاستنزاف الفرشة المائية، وبسبب تعميق الآبار التي يستغل على عمق كبير محتكما إلى مضخات ضخمة، فقد تسبب في تناقص مستمر لمنسوب مياه آبار السكان، وهذا الوضع تواصل حتى في المواسم التي عرفت تساقطا للأمطار. ورغم الحرب الضروس التي يخوضها ضد الفرشة المائية، ورغم الضرر البادي بوضوح مؤلم على حياة الناس وفلاحتهم، إلا أن لا أحد تدخل لوقف هذا الدمار، رغم الشكايات المستمرة لأبناء المنطقة. ناهيك عن مشكل الفيضانات الذي يفاقمه، مثلما حدث قبل سنوات والمنطقة مازالت محتفظة بمعالم الخراب التي أحدثتها…» .

الجفاف يطرد الفقراء ويجلب الأثرياء

في قلب بنية الفقر والجفاف والندرة التي تشكلها هذه المنطقة، كنا نصادف من حين لآخر قصورا فخمة بأسوار عالية ودورا للضيافة ممتدة على مساحات شاسعة بعدد كبير من الغرف والمسابح. مشهد يبدو شاذا ودخيلا على مكان ينهكه العطش وتكاد قلة المياه تطرد سكانه في هجرة جماعية نحو المدينة. يفسر أحمد هذا الوضع قائلا» أصبحت هذه المنطقة بسبب قربها من مدينة مراكش تفتح شهية المضاربين العقاريين والمستثمرين في السياحة، دون أثر اجتماعي على السكان. المشكل أن هذه القصور والإقامات السياحية سبب مباشر في تفاقم أزمة المياه التي يعانيها السكان البسطاء. إذ أنها تحتكم لإمكانيات ضخمة تضع رهن إشارتها وسائل فعالة لاستنزاف الفرشة المائية عن طريق تعميق الآبار واستغلال تكنولوجيا الطاقة الشمسية والخزانات الضخمة، وغالبا ما تأتي قوة المال مصحوبة بالنفوذ لتفاقِم الوضع حتى في حالة التشكي أو الاحتجاج. السكان غلبوا على أمرهم، وصاروا عاجزين عن المقاومة، لذلك فالكثير منهم استسلم للحل الأسهل وهو عرض أراضيهم للبيع واللجوء إلى المدينة.. إنه مأزق بدون مخرج..».
وماذا عن الماء الصالح للشرب؟ يجيب أحمد لحد الآن ونحن في منتصف فبراير لا مشكلة فيه. والفضل في ذلك للاتحاد الأوروبي الذي دعم جمعية محلية لحفر بئرين مع خزانين للتصفية والتوزيع على البيوت.

محنة اللامبالاة

ضحك عمر كثيرا عندما سألناه « هل اتصلت بكم إحدى الجهات المسؤولة لتقديم حلول لهذه الأزمة الناتجة عن الجفاف؟ «، وأجاب» إنهم يتذكروننا فقط في الانتخابات، و ماعدا ذلك فلا أحد يعبأ لوضعنا نهائيا…» قاطعه أحمد « أستغرب لماذا لم تعلن الحكومة عن مخطط لمواجهة آثار الجفاف؟ ما يحدث هنا هو موت اجتماعي بطيء، الأرض تموت عطشا والناس يحتضرون باليأس والبؤس واللامبالاة التي يواجهون بها من قبل الحكومة ومصالحها…» .
في وسط حقل صغير من أشجار الليمون وأحواض الفول التي يرعاها أحمد بلحوشة، وقف هذا الأخير متحسرا» أنفقت الكثير من المال لتأمين سقيها، جارنا لديه بئر يتعاون معنا بمدنا بمياه الري من حين لآخر مقابل دفع واجب قنينات الغاز التي يعمل بها المحرك، لكن المضخة أصيبت بعطل يستلزم مالا كثيرا لإصلاحه، وها أنا أرى شتلات الفول تذبل بعد أن أزهرت وأشجار الليمون كذلك، نحن في صيف مبكر الصباح والليل بارد لكن في النهار شمس حارة، وهو ما يضاعف حدة العطش.. لست أدري ما الذي علينا فعله سوى الانتظار والتطلع إلى السماء عسى أن تمطر، وإلا فكل هذا المجهود الذي بذلناه سيذهب هباء..».
يشير أحمد إلى أن أغلب المزاعين في قرية أولاد مومن يشتغلون في الفلاحة المعيشية وأن أهم منتوج هو الخضروات كالبطاطس والفول والملوخية والقرعة إضافة إلى الليمون والبرتقال والزيتون. لكن مردودية نشاطهم الزراعي تظل متأرجحة تبعا لتردد مواسم الجفاف.
ما الحل إذن، طالما أن الجفاف صار ظاهرة شبه ثابتة؟ طرحنا هذا السؤال على عبد الحق، فأجاب « إقامة سد على الوادي لتخزين مياهه التي تذهب إلى البحر. لو أقيمت منشأة مثل هذه عوض المقالع التي يجني أصحابها أموالا طائلة ولايخلفون للسكان سوى الأضرار والمصائب، لما كنا في هذه الوضعية التي نعيشها اليوم.» يقاطعه أحمد « ربما أن مشروع سد تغدوين إذا ما أنشئ سيكون حلا، إذا ما استفادت المنطقة من مياهه..» .
تركنا قرية أولاد مومن تحت شمس قاسية، أرض عطشى ووجوه يملؤها اليأس ويغزوها الإحساس بالإهمال وعيون تتطلع إلى السماء عسى أن تكون أكثر رأفة من البشر. في أولاد مومن يبدو الجفاف محنة حياة ليس الماء هو سببها الوحيد وإنما الشعور بمواجهة المأساة في عزلة تامة بلا عون ولا مساندة.. فمتى ينتهي كل هذا؟


الكاتب : مكتب مراكش: عبد الصمد الكباص

  

بتاريخ : 18/02/2022