في قلب السهل الشاوي الممتد بلا حدود، حيث تنسج الأرض قصص القبائل وتروي تفاصيل القرون الماضية، تنهض قصبة دار الشافعي كمعلمة تاريخية لا تزال تحتفظ بقدرتها على إثارة الدهشة. ليست القصبة مجرد بناء تراثي طيني يواجه الزمن، بل هي شاهد صامت على مرحلة عاصفة عاشتها قبيلة بني مسكين، حين وجدت نفسها أمام اختبار وجودي أعاد صياغة وعيها الجماعي.
كانت القصبة قبل الاحتلال مركزا نابضا بالحياة، تحكمها بنية قبلية صارمة، لكنها منسجمة مع محيطها، فقد كانت الملجأ، والمخزن، ومقر القيادة، ومكان استقبال الضيوف، ومحطة مرور لكل من قصد السهول الواسعة للتجارة أو للرعي. موقعها الاستراتيجي لم يكن وليد الصدفة؛ فقد شُيِّدت عند نقطة عالية نسبيًا، تسمح بمراقبة الحركة في المسالك الرعوية والطرقات الممتدة نحو الدار البيضاء من جهة وتادلة من جهة أخرى. هذا الموقع المميز جعلها محطّ أنظار القوى التي رغبت في فرض هيمنتها على الشاوية، خصوصًا خلال الفترات التي اتسمت باضطراب الوضع الأمني والسياسي.
عندما تعرّضت القصبة للاحتلال، لم يكن الحدث مجرد سيطرة عسكرية على بناء تقليدي، بل كان ضربة موجهة إلى عمق البنية الاجتماعية لبني مسكين. فقد شكّل سقوط القصبة رسالة واضحة بأن القوة المحتلة ترغب في تفكيك «الجماعة» بصفتها إطارًا تدبيريًا يضمن للقبيلة استقلالًا نسبيًا. ومع دخول القوات المحتلة، بدأت سلسلة من التحولات القسرية من قبيل نزوح عدد من الأسر خوفًا من المواجهات، تعطّل الأنشطة الفلاحية التي كانت العمود الفقري للاقتصاد المحلي، وتحوّل محيط القصبة من مجال للحياة اليومية إلى فضاء شبه عسكري. حتى الأسواق الأسبوعية القريبة فقدت زخمها، بعد أن أصبحت الحركة فيها مراقبة ومكبّلة.
ورغم هذه التحولات، لم يستسلم أبناء بني مسكين. فقد شهدت المنطقة، وفق الروايات الشفوية المتواترة، بروز مجموعات من الرجال الذين اتخذوا من التضاريس الطبيعية مأوى لعمليات المقاومة. كانوا يعترضون قوافل الإمدادات، يسترجعون ما تمت مصادرته من ماشية أو حبوب، ويزرعون الخوف في صفوف المحتل رغم محدودية إمكانياتهم. غير أن هذه المقاومة لم تكن مجرد عمليات عسكرية صغيرة، بل كانت تعبيرًا عن رغبة جماعية في حماية شرف القبيلة وصون ترابها.
ومع مرور الوقت، تحولت قصبة دار الشافعي إلى رمز للمقاومة الصامتة. ورغم ما أصابها من الإهمال والانهيار الجزئي، لا تزال أطلالها تحمل ملامح الصمود: جدران سميكة قاومت عوامل الطبيعة لعقود، أبراج مراقبة فقدت ارتفاعها لكنها احتفظت بروحها، ومساحات داخلية توحي بأن المكان كان يومًا ما مركزًا نابضًا بالحياة. واليوم، وبعد أن تغيّرت أنماط العيش وتطورت البنيات العمرانية، تبدو القصبة وكأنها صفحة من كتاب لم يكتمل، تنتظر من يعيد قراءته.
إن إعادة الاعتبار لقصبة دار الشافعي ليست مجرد رغبة في ترميم بناء قديم، بل هي محاولة لإحياء ذاكرة جماعية كادت تضيع. فالقصبة تملك كل مقومات التحول إلى معلم سياحي وثقافي: تاريخ غني، موقع استراتيجي، وقيمة رمزية كبيرة لدى السكان، كما أن توثيق روايات كبار السن حول فترة الاحتلال سيشكل إضافة مهمة للتراث الشفوي المغربي، خاصة في منطقة مثل الشاوية التي تزخر بتاريخ غير مدوّن. إن استحضار قصة احتلال قصبة دار الشافعي هو استحضار لجزء من هوية بني مسكين، وهو تذكير بأن هذا السهل الواسع لم يكن يومًا فضاءً فارغًا، بل كان مسرحًا لصراعات وأحلام وذاكرة أجيال. لذلك فإن حماية هذا التراث، والاحتفاء به، ومنحه المكانة التي يستحقها، هو واجب يتقاسمه الجميع سواء تعلق الأمر بالباحثين أو المؤسسات أو السكان، وكل من يحمل تقديرًا لكلمة «تاريخ».
محمد تامر

