أحقا حدث الذي حدث؟ قطعا، لم يكن كابوسا لأنني استيقظت في المكان نفسه والمدية بقبضتي وقميصي ملطخ بدمها. أطعنتها؟ أم ذبحت الكلب الذي أتاني بالنباح؟ لعلي لم أعد أفرق بين الواقع والخيال. قررت أن أستيقظ… ربما لم أستيقظ بعد. أغمضت عيني من جديد. لم أكن ممددا. كنت مقرفصا حذاء ما يشبه جدعا مقطوعا لشجرة مجهولة. كنت أحفر بالمدية التي لم تكن مدية بل ترنوفا. كنت أحفر حتى بالأظافر حول الجدع كي أقتلعه. قررت أن أستيقظ أو أنام، من جديد، سيان. أريد أن أفهم ما يحصل أمامي أو في قرارتي، سيان. أغمضت عيني ولكنني ما زلت أحفر. انكسرت الريشة فجأة فتاهت يدي وأهرقت المحبرة. الكلب ينبح ما يزال. إذن لم أذبح الكلب. امرأة تصرخ في وجهي وتهرول؛ يتبعها الكلب بالنباح، إذن لم أطعنها. من أكون الآن؟ طرق باب لا أراه؛ فتحت عيني، توقفت عن الحفر، لم يكن ثمة باب، لا مداد أو محبرة… المدية بقبضتي تنز وقميصي يلتصق بصدري ملطخا بدم أو بمداد أحمر لا أستطيع أن أفرق بينهما. الأحمر ما أراه وفقط، ولا كلب ولا نباح… أحاول أن أتبين ما حولي. لا أرى. أحس أياد تعبث بصدري وتؤلمني. لا أستطيع أن أصدها. لا أستطيع الحركة. أفتح عيني من جديد؛ أرى كرزة. أسمع ما يشبه صوتا بغير لغة يقول شيئا لا أفهمه بصوت مرتفع. أغمض عيني من جديد، أحس صفعة تلوها صفعة ولا أتألم. في الظلمة خلف جفوني أحدهم يشعل شمعة. لا أراه، لا أرى الشمعة، أرى اللهب المتراقص بألوان قزح. أراه يقترب. أراه يتقطر، يحرق بؤبؤي، أستيقظ… أفتح عيني، أنظر ولا أرى. أحس شيئا بقبضتي وسائلا لزجا يلطخ صدري. أصرخ بكل صوتي ولا أسمعه. يعم الظلام… حدث ما حدث، وفقط. ولكنني لا أعرف ما حدث. ولكنني أريد أن أعرف ما حدث. لا أعرف إن كنت في يقظة أو في منام. الذي أعرفه حق المعرفة هو أنني لا أعرف ما يحدث وما حدث. آخر ما أذكره هو أنني كنت بالمصعد نازلا. أحس جاذبية النزول إلى الآن. لا أستطيع أن أفتح عيني ولا أستطيع أن أغمضهما. لا أستطيع أن أنام ولا أستطيع أن أستيقظ. لا أستطيع أن أتمدد ولا أستطيع أن أقف. إحداهن تزغرد؛ لا أسمع بل أحس بصدري ذبذبات الصدى. الزغردة تضحك الآن. يدي تؤلمني. يدي تشد على شيء بشدة. أو لعله الشيء الذي أحسه بيدي يجتذب عضلاتها وعظامها بشدة مهولة. أحاول بسط يدي. أركز بعنف على يدي. أنسى ما حدث وأركز على ما يحدث الآن؛ يدي وإن لم أخلصها مما تقبض عليه أو يقبضها بشدة ستنفجر كما قنبلة وسوف تتفتت عظامها وتتطاير شظايا ميكروسكوبية. أزيز ثم أزيز، كلب يزغرد ثم يضحك بالقهقهة. لا أرى الكلب. لا أرى شيئا. عكازة أعمى تطقطق في رأسي. وفجأة تحط الطائرة وينزلون التابوت حامدين شاكرين أنهم ليسوا فيه. يصل البيت الذي هاجر منه وهجره. يقرأ عليه ويصلى. ثم يدفن بالذي قد لا يكون فيه. التابوت مختوم ولا يفتح أبدا، أبدا. يبنى القبر في ظرف أسبوع أو حتى شهر ثم ينسى ثم يسامره التلف فيصبح مجهولا، قبرا مجهولا لميت مجهول. وأخيرا أتوصل بالجبلة إلى أن لا مدية كانت بقبضتي ولا قلم، وأن لا دم كان يلطخ قميصي أو صدري أو حبرا. ربما أضغاث أحلام. فتحت عيني دون إرادة مني. ظننت أنني فتحت عيني فأغمضتا بغير نية مني أو عزم. جسدي صخرة ثابتة والليل البهيم يجثم على السقف والجدران. سعال جبار ليس مني يغتصب رئة السماء ودموع من عينيها تذرف كما الطوفان. أنتبه بحاسة أمتلكها وكنت أجهلها إلى أن أبانت عن نيتها في إسعافي على معرفة ما يحدث وحدث، أنتبه إلى ما يشبه عتمة لطيفة تبتسم لي من خلال الليل البهيم إياه. تبتسم وتومئ ببؤبؤ، أشد سواد من هذا البهيم، إلى ما خلفي. وبالبؤبؤ الآخر تخزر البهيم كي لا يفتح عينيه ويراها تومئ إلي بما تومئ به. ولأنني كنت لا أستطيع أن أحرك ساكنا، ولم يكن بمستطاعي أن أنظر خلفي ولا حتى أن أتعرف عن موقع عيني من رأسي، أزحفت وعيي إلى داخل القرارة بجهد كبير، ثم لفظت آخر أنفاسي لكي أترك الجسد إلى ما ورائه، الروح مثلا أو النفس أو حتى ما يشبه الشبح والذي قد ننعته بالحضور الغياب. واستطعت أن أخرج مني وأرفرف كهالة دهماء لا تتبينها سويداء البهيم، ثم أحوم حولي وأحط على عنقي برأس مقلوبة لأنظر ما أومئ به إلي؛ فكان حقا ما رأيته يحدث قد حدث فعلا. استيقظت في المكان نفسه والمدية بقبضتي وقميصي ملطخ بدمها.
قصة
الكاتب : جمال خيري
بتاريخ : 19/05/2023