قصة البصمة العلمية الفرنسية «السوبر كام» التي حققت مدخلا بصريا استثنائيا للبشرية على كوكب المريخ

 

إن حلم استيطان الكواكب المجاورة في مجموعتنا الشمسية، وأقصد الكواكب التي قد تمكننا من العيش عليها، في حالة بدأ أي من تلك السيناريوهات المجنونة، أفلام السفر نحو الكواكب، نخص فيلم «انتريستيلار» لكريستوفر نولان كمثال، لم يكن سوى الخطوة الأولى في رحلة البشرية، للكشف عن ما يخبئه الكون الفسيح، رحلة كان الأساس فيها الخطوات الأولى لرائد الفضاء نيل ارمسترونغ على القمر (1969)، رحلة ومع نجاحها العالمي فتحت أعين الكثير من الدول والأثرياء من كل صوب، وكان السبب فيها ما قاله فريق أبولو 11 «بفضلك اليوم، أصبحت السماوات عالما جديدا للإنسان»، ليكون العالم بعدها بعقود، على الخطى الأولى لغزو كوكب المريخ الأحمر.
إن التكافل العلمي البشري، ولا سيما في مجال الغزو الفضائي، كان فيه نصيب الأسد لوكالة «ناسا» الفضائية الأمريكية، ولما تمتلكه من تقنيات متطورة و عقول فذة، مكنتها في سابقة بشرية من تطوير روبوتات قادرة على التجول على أسطح الكواكب، كحال صديقنا الصغير «بيرسيفيرنس» الآن على الكوكب الأحمر، هذا بفضل الاستثمارات المهمة والميزانية الوطنية الكبيرة، مكنت مبعوثنا الفضائي من إرسال صور بجودة جيدة عن الكوكب، البعيد عنا بما يقرب من 225 مليون كلم في الفضاء الشاسع، في محاولة تقنية صغيرة ومتطورة، قد تشفي غليل البشرية من سؤال لطالما يظهر للعلن مع كل رحلة فضائية يتمثل في: «ما السر وراء طمعنا في غزو الفضاء واستيطان المريخ تحديدا؟»، سؤال سنحاول الإجابة عنه في هذا المقال العلمي.
دون مبالغة، يعود الفضل في الصور الأولى الحية للكوكب، إلى مجموعة من العقول الفرنسية الفذة، من العلماء والمهندسين من مدينة تولوز الفرنسية، باعتبارهم العين التقنية التي حققت مدخلا للبشرية على الكوكب الأحمر، في الوقت الذي عجزت فيه العقول الطبية الفرنسية، عن التوصل للقاح ضد فيروس كوفيد-19، وما تعيشه فرنسا كبقية الدول من مشاكل لها علاقة بالحياة الخاصة لساكنتها وخصوصيتهم، أو ما ترتب عن الفكر المسيء وغير السمح من أزمات، و كما قال إيمانويل كانت : «السؤال لا يكمن في تواجد حياة على الكوكب الأحمر، بل يكمن في استمرارية عيشنا على كوكب الأرض».
«في الطريق لأطول رحلة فضائية للبشرية، لا سفير لنا غير الروبوت الجوال بيرسيفيرنس، حاملا معه في رحلته أفضل ما في التكنولوجيا المصنعة في فرنسا. إن هذا الروبوت الرحال، ليس سوى مختبر متنقل صغير الحجم، مخصص للتنقيب الحفري عبر الليزر. من كاليفورنيا وصولا الى فرنسا، عاش الفريق الفرنسي تلك الدقائق السبعة المقلقة حاله كحال فريق الناسا، في لحظة ممزوجة بالمشاعر مترقبة نزول عربة تزن 1 طن بسلام على سطح الكوكب الأحمر».
تزامن نزول مركبة بيرسيفيرنس، مع تاريخ 10 فبراير 2021، و في الساعة 21:55، رفقة ترقب دام لمدة 7 دقائق مقلقة بالنسبة للجميع. ناهزت سرعة سفر المركبة عبر الفضاء 21 ألف كلم/س، لكن هبوطها على سطح المريخ، لن تتجاوز فيه المتر الواحد في الثانية، لتسجل بعد هبوطها الناجح أولى صورها في منطقة «جيزيرو» من سطح الكوكب. ستستمر رحلة المركبة على مدى سنتين، تغطي فيها مساحة بحث تقرب من 45 كلم، بمعدل 100 إلى 200 متر في اليوم، في منطقة تبدو عليها آثار يناهز عمرها 3.5 مليار سنة نلمح مرور واد من المياه، في فترة ما من تاريخ الكوكب الاحمر. سترتكز مهمة المركبة، في جمع العينات الصخرية والأرضية، عينات التربة في الكوكب الأحمر والبحث عن آثار لكائنات أوحياة فضائية محتملة، في حين أن جمع هذه العينات، سيتم عبر رحلات فضائية في أفق سنة 2031.
للتذكير، فقد استمرت فرق وكالة الناسا في العمل، منذ ما يزيد عن 5 سنوات، لتحقيق هذا الإنجاز العلمي والتاريخي. بالنسبة لفرنسا، فإن المشاركة في هذه المغامرة الفضائية، كانت شرفا كبيرا اعتز به الفرنسيون، يعود الفضل فيه إلى فريق من علماء الفضاء الفرنسيين، وذلك عبر تمكين الروبوت الرحال «بيرسيفيرنس»، من تكنولوجيا بصرية حديثة و فرنسية الصنع، اطلعت العالم على ألوان الكوكب الأحمر. شارك أكثر من 14 مختبرا تقنيا، وما يفوق 25 شريكا صناعيا وما يزيد عن 300 شخص، في تصنيع هذه العين الفائقة التي تحتوي على 5 تقنيات متطورة، تمكنها من تحليل الصخور والرواسب، علاوة على أداة لإطلاق الليزر ثورية الهندسة، قادرة على إطلاق طاقة تعادل قدرة محطة نووية في 5 مليارات جزء من الثانية.
“ما يبحث عنه الروبوت الجوال على سطح الكوكب الأحمر، بالاستعانة بعينه الإلكترونية الخارقة «سوبر كام»، هو أثر كيفما كان يثبت مرور حياة ما على سطح المريخ، كحال مختص يبحث عن عظمة ديناصور. سيكون من المثير أن نعثر على أثر ما» – سيلفستر موريس.
يراقب علماء الفضاء الفرنسيون، كما اعتادوا عملية هبوط «السوبر كام» على سطح الكوكب، من قاعة «مركز العمليات الفرنسي للعلوم والاستكشاف» (FOCSE)، والتي طالما اعتاد سيلفستر موريس المسؤول بالمركز، أن يقلق فيها بخصوص المركبة الجوالة وأحوال العين الخارقة عليها (السوبر كام)، تزامنا مع حضور الرئيس الفرنسي ومراقبته لسير الأمور، حيث صرح بأن الرئيس ماكرون قال له: «لا تقلق يا سيلفستر، لا تقلق، كل شيء سيكون على ما يرام»، حيث يعود السبب في كلمات الرئيس المهدئة، إلى ما لاحظه على سلوك الرجل العصبي لأقصى درجة، والذي لم يترك شعرة من على رأسه دون أن يقتلعها من مكانها، أو دون أن يجرح نفسه من شدة التوتر.
لقد علم الرئيس الفرنسي مسبقا، بأن فرنسا ستحظى بشرف كبير في حال نجاح المهمة، بالرغم من كون الاستثمارات في المهمة الفرنسية كانت خجولة جدا (حوالي 40 مليون أورو)، مقابل مجموع استثمارات ناهز 2.5 مليار. إن الرئيس قد لا يكون على علم، بأن الحضور الفرنسي في هذه المهمة التاريخية، كان وليد الصدفة المحضة ليس إلا، فالفرنسي الصغير (سيلفستر موريس) قد فاز بصفقة العروض التي أطلقتها الناسا سنة 2005 من أجل المركبة الفضائية، من خلال تقنية الليزر التي استمر في تطويرها لغاية 2012، و تمت تجربتها لأكثر من 855 ألف مرة. هنا، يستحضر موريس كلمات الأمريكيين، الذين قالوا له سابقا : «سوف نختار المشروع الأفضل»، ليتفوق مشروعه على أكثر من 58 منافسا دوليا مشابها.
إن الأيادي والعقول العبقرية، التي تكمن خلف نجاح مشروع أداة إطلاق الليزر، المستخدم في المركبة الجوالة بيرسيفيرنس، قد بلغ تعدادها أكثر من 300 شخص، عملت منذ سنة 2014، بالتعاون مع «المركز الوطني لدراسة الفضاء» و»المركز الوطني للبحث العلمي»، ناهيك عن 200 مختبر و 100 شريك صناعي، من أجل هندسة السوبر كام. يبلغ وزن ليزر «ثاليس» أو أداة الإطلاق 20 كلغ، لذلك كان التحدي خفض وزنه إلى 1 كلغ لكي يثبت على الروبوت الجوال. تحتوي السوبر كام على تقنيات 5 متطورة، تمكنها من تحليل ومراقبة الأملاح المعدنية في الصخور، ولن تتم مهمتها إلا بالاستعانة ببطاريات قوية جدا وذات هندسة متقدمة، ستساعدها في تجاوز البيئة الصعبة للكوكب الأحمر، مع درجة حرارة ليلة تقرب من -165 مئوية، في حين إن حرارة المعدات لا يجب أن تتجاوز -40 مئوية.
بحلول سنة 2018، كان العمل قد شارف على الانتهاء بالنسبة للسوبر كام، بغية تسليمها في ما بعد بحسب الموعد المقرر مسبقا، في شهر يناير من سنة 2019، للعاملين في مختبر «جيت بروبولشن لابوراتوري»، بغرض تركيبها على متن المركبة الجوالة. يقول سيلفستر بهذا الخصوص : «بقي عنصر إلكتروني وحيد، اضطررنا لتجفيفه وإلصاقه على حرارة معتدلة، غير أن العنصر لم يبد الاستجابة المطلوبة منه، وزادت درجة الحرارة على وجه غير مسبوق، دون أن تنذرنا صفارات الإنذار الحرارية بأي شيء. هنا، وفي هذه اللحظة لم ينطق أحدنا بكلمة». ويردف : «اتصلت بزميلي في الناسا، الذي أظهر استغرابه من الواقعة وخوفه على مسار المهمة، ولنتحول في عشية و ضحاها لأبرز مشاكل الفريق الأمريكي، الذي قال لنا أحد مسؤوليه: «نحن آسفون يا شباب، لكن وفي حالة عدم مقدرتكم على الاستمرار، فسنضطر إلى إتمام المهمة من دونكم، وأنتم تعلمون أن كل تأخير في المهمة الفضائية، سيكلفنا في اليوم الواحد 400 مليون دولار. هنا، أحسست بالفشل الحقيقي، وبأن المهمة كانت مستحيلة لهم و لنا دون السوبر كام».
إن التحدي الحقيقي، يكمن في اعادة صناعة نفس الآلة في 7 شهر، مقابل 3 سنوات إبان فترة التطوير والصناعة، مع مراعاة إعادة استقطاب العاملين 300 على المشروع. من بين التحديات أيضا، إعادة صناعة المرآة الداخلية للسوبر كام، التي عمل عليها الفريق ل7 أشهر متواصلة. إن العون الأكبر في مهمة إعادة تصنيع العين الإلكترونية الخارقة، قد أتى من تكافل جميع الجهات العلمية والصناعية الفرنسية في ما بينها، انطلاقا من وزارة التعليم وصولا إلى مراكز الأبحاث والتطوير، مرورا بالشركاء الصناعيين الذين أبدوا رغبتهم في مد يد المساعدة، كل هذا من أجل شرف الأطر الفرنسية أمام الأمريكيين والعالم، ولدرجة أن خدمات توصيل البيتزا كانت كثيفة جدا، وكانت تخلل جلسات العمل فترات ممارسة اليوغا تخفيفا من الضغط، كما صرح سيلفستر موريس.
استمر فريق وكالة ناسا الأمريكية، بمتابعة تطورات عمل الفريق الفرنسي أولا بأول، لدرجة أن تدقيقهم بلغ مراقبة كل كبيرة وصغيرة في المشروع، ما وضع الفريق الفرنسي الفضائي في ضغط لا يحسد عليه أدى بموريس إلى فراش المرض بسبب التوتر الخارج عن حدوده العقلية، إذ لم يتمكن سوى من المراقبة في صمت، واضعا ثقته في باقي أعضاء الفريق والعاملين على الاختراع الفرنسي، غير أن الأمور أخذت في تبني السهولة واليسر، بعد أن أعلمهم أحد الشركاء الصناعيين في المشروع، بأنه كان يتوقع حدوث خطأ من هذا القبيل، ولتفادي ذلك قام بصناعة زوج ثاني من البنية الميكانيكية للسوبر كام، نفس الشيء بالنسبة لمطلق الليزر، في بصيص نور بدأت ملامحه في الظهور في نفق هذه الرحلة الفرنسية الصناعية الشاقة.
انتقل فريق سيلفستر، في رحلته الأخيرة إلى الولايات المتحدة، لكي يسلم «السوبر كام» وبرفقتها هدية صغيرة، إلى زملائه من مختبر «جيت بروبولشن لابوراتوري». كانت الهدية عبارة عن ميكروفون مثبت ضمن صندوق السوبر كام، وهي فكرة نابعة من عقل سيلفستر، قام بإعدادها أحد طلبته ذو28 سنة، لتمكنهم من تسجيل أصوات الكوكب (الرياح والعواصف تحديدا)، إضافة إلى دورها في تمكين المهندسين من تحليل صدى صوت ارتطام الليزر بالصخر المريخي، فكرة أخرى أبهرت الأمريكيين كالعادة. يحسب للأمريكيين سرعة أدائهم، بيد أن عملية نقل المركبة إلى محطة إطلاقها في فلوريدا، قد تمت في نفس الشهر من وصولها من فرنسا، وقبيل بدء جائحة كورونا في الانتشار في أمريكا، حيث تم إرسالها في رحلتها البالغة7 أشهر، في 30 من يوليوز 2020.
انتقالا إلى تولوز الفرنسية، تنفس فريق سيلفستر الصعداء بعد عملية الإطلاق الناجحة للمركبة وبداية رحلتها. لذلك، للتأكد من كون كل شيء يعمل على ما يرام، قاموا بإجراء 3 اتصالات على فترات متقطعة مع «السوبر كام». أعقب نزولها على سطح الكوكب الأحمر بعد رحلتها الطويلة، إطلاق عملية «الأرضيات 90»، أي تشغيل البطارية الاحتياطية التي ستعرفنا إن كان كل شيء يسير كما يراد له. ستمارس المركبة الجوالة مهامها كل يوم، على مدى سنتين من العمل المتواصل، صباحا ستلتقط وتحلل الصخور وتبحث في أرض الكوكب، ومساء سترسل البيانات إلى القمر الذي يدور حول المريخ، وسيتكلف بإيصال المعلومات إلى الأرض، من خلال واحدة من 3 أعمدة استقبال أرضية.
يعقب موريس قائلا: «لقد قسمنا مدة عمل المعدات على المركبة إلى 3 مراحل، لكي نتفادى أي مشكلة قد تظهر عليها بسبب الأحوال الجوية الصعبة للكوكب. كمثال على ما سبق، نذكر الليزر الذي وضعناه على مركبة «كوريوزتي»، والذي بدأت تظهر عليه المشاكل مؤخرا بعد أكثر من 8 سنوات من العمل».
إن المهمة الأولى لـ «بيرسيفيرنس»، تتجلى في اكتشاف أي دليل على حياة سابقة أو ممكنة على المريخ، إذ تأمل الناسا عبر الاستعانة بالسوبر كام، في إيجاد أي مؤشر للحياة «معدني حيوي» (معادن تنتجها الكائنات الحية، توجد عادة في العظام والأصداف). أو كما يشرح موريس معرفا بالمؤشر: «إن غلاف بيضة الطيور، ليس بالغلاف الحي، لكنه ينتج من قبل كائن حي، و هذا هو المؤشر الذي نبحث عنه»، ويضيف: «ما يبحث عنه الأمريكيون، ويسمونه ب»عظم الديناصور» أو ال»ستروماتوليت» أي غطاء من البكتيريا». و يعقب: «إنها فكرة لثورة فلسفية. إن وجود الحياة على الأرض والمريخ، سنتوقع من خلاله أن الحياة حاضرة على مدى كواكب المجرة كلها، ولما لا في الكون برمته».
إن التحدي الأبرز في هذه الرحلة، يكمن في محدودية قدرة المختبر الصغير المريخي، على تحليل العينات الملتقطة من الكوكب الأحمر بنفس جودة المختبرات الأرضية، غير أنه من الضروري بمكان جمع و تحليل هذه العينات الترابية والصخرية. إن المستقبل يحمل رحلتين إضافيتين إلى الكوكب الأحمر، من قبل روبوتات جوالة ستحل محل بيرسيفيرنس فور انتهاء مهمته القائمة على التقاط 40 عينة وأفضل 32 عينة سيتم وضعها في منطقتين مختلفتين من سطح الكوكب، التي سترسل الناسا على إثرها في سنة 2026 روبوتا صغيرا أوروبيا لتجميعها من نقاط التخزين، بعد 4 إلى 5 سنوات من تجميعها، وبعدها سيتم إرسالها إلى القمر الدوار على الكوكب، حيث ستقوم بجولات دورانية عليه إلى غاية سنة 2030، قبل أن يتم تجميعها من جديد من قبل روبوت ثالث و إرسالها إلى كوكب الأرض، بغرض تحليلها واكتشاف جواب السؤال الفلسفي الفضائي القديم للبشرية في سنة 2031، الذي سيعرض على مسامع و مرأى 7.6 مليار نسمة على الكوكب الأزرق.
(المصدر : جريدة
«باريس ماتش» الفرنسية)


الكاتب : ترجمة: المهدي المقدمي

  

بتاريخ : 01/03/2021

أخبار مرتبطة

  أرجأت المحكمة، ظهر أول أمس الخميس، النظر في هذا ملف محمد مبديع ومن معه إلى غاية  الـ25 من يوليوز

  شهدت جلسة محاكمة المتهمين في ملف تاجر المخدرات الدولي الحاج أحمد بن ابراهيم، المعروف باسم “إسكوبار الصحراء”، حضور الممثل

إنتاج الرخام في المغرب يئن تحت وطأة المقالع العشوائية ومنافسة الأتراك والإسبان 89 % من مقاولات القطاع لا يتعدى رقم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *