قصة .. المرآة السوداء

 

1

في قريةٍ نائيةٍ تتوارى بين جبالٍ كأنها جباه العُمر، عاش رجلٌ اسمه «سُليم». لم يكن كسائر أهل القرية؛ فقد كان يحمل في عينيه نارًا لا تُطفأ، وفي قلبه جُرحًا لا يندمل. تحدّثت القلوب عنه قبل الألسنة، فكل من رآه تراءى له كأنه ظلٌّ منكسرٌ يسير على قدمين، لا يبتسم، ولا يحيي، ولا يرد السلام.
سُليم هذا كان في طفولته فتىً ذا ضحكةٍ كالندى، يلهو بين الحقول ويُطيل النظر في النجوم، يسأل أمه: «يا أماه، لماذا يكره الناس بعضهم؟». كانت تُجيبه بابتسامةٍ رقيقة: «لأنهم لا ينظرون في المرآة، يا بُني».
لكن تلك الابتسامة لم تدم. ففي ليلةٍ من ليالي الربيع، اشتعلت نارٌ في بيته، وأتت على أمه وأخته الصغيرة، ولم ينجُ من الأُسرة إلا هو، لأنه كان حينها في حقل الجيران يساعدهم في الحصاد.
وقيل إن النار لم تكن عرضية، بل مُتعمَّدة… وإن الذي أشعلها كان «رشيد»، جارُهم القريب، الذي كانت بينه وبين والد سُليم خصومةٌ قديمة على قطعة أرضٍ لم يرثها أحد.

2
بعد الحادثة، غاب سُليم عن القرية سنين، عاد بعدها رجُلاً مُختَلفًا. لم يعد يسأل عن الكراهية، بل صار يصنعها بنفسه، كالحدّاد يطرق الحديد حتى يذوب.
أقام في بيتٍ صغيرٍ على أطراف القرية، بعيدًا عن عيون الناس، لكنه لم يبتعد عن ناره الداخلية. تبعه ظلُّ رشيد كأنه لعنة. كلما مرّ سُليم في السوق، توارى رشيد خلف الأبواب. وكلما رآه رشيد من بعيد، ارتعش قلبه كأنه يرى شبحًا.
مرت سنون، وسُليم لم ينطق بكلمةٍ واحدةٍ ضد رشيد، لكن صمته كان أثقل من ألف لعنة. فقد علّم نفسه أن أقسى أنواع العقاب هو أن تُجبر خصمك على العيش في خوفك، لا في موتك.
وفي ليلةٍ ماطرة، دخل رشيد على سُليم دون إذن، وهو يرتجف، وركبتاه تكادان تلمسان الأرض. قال بصوتٍ مكسور:
«لقد فعلتها… أعرف أنك تعرف. فاقتلني إن شئت، لكن دعني أقل: لم أقصد قتلهم. أقسم بالله! أردت فقط أن أرعب أباك، فاشتعلت النار… وخرجت عن السيطرة».
سُليم نظر إليه طويلاً، ثم قال بصوتٍ هادئٍ كالسم:
«القتل لا يُغفر بالاعتذار، رشيد. الموت لا يُردّ بالدموع».
وأدار ظهره، وخرج رشيد يزحف على ركبتيه كأنه يحمل جنازة نفسه.
3

لكن تلك الليلة لم تكن نهاية الحكاية، بل بدايتها.
فقد بدأ سُليم يرى في أحلامه وجوه أمه وأخته، لا يبكيان، بل ينظران إليه بنظرةٍ فيها عتابٌ أعمق من الغضب. وفي إحدى الليالي، سمع صوتًا داخليًّا كأنه صدى من أعماقه:
«هل تظن أن الكراهية تُحيينا؟ أم أنها تدفننا مرتين؟».
لم ينم تلك الليلة. جلس يتأمل وجهه في مرآةٍ قديمةٍ وُضعت في زاويةٍ من بيته. رأى رجلاً عجوزًا في عينيه شرخٌ، وفي جبينه خطوطٌ كأنها خرائط لحروبٍ لم تُكتب.
سأل نفسه لأول مرة منذ عقود:
«هل أنا سُليم؟ أم أنا مجرد كراهية تمشي على رجلين؟».
وفي الصباح، خرج من بيته دون أن يدري أين يذهب. سار حتى وصل إلى شيخٍ عابدٍ يعيش في كهفٍ أعلى الجبل، يُقال إنه يعرف أسرار القلوب.
سأله سُليم: «كيف أقتل عدوي؟».
فأجابه الشيخ دون أن ينظر إليه: «عدوك ليس رشيد. عدوك هو من جعلك ترى الكراهية كأنها دينٌ تدين به».
«فكيف أتخلص منه؟».
«بأن تنظر في المرآة، لا في المرآة السوداء التي تحملها في صدرك، بل في مرآة الروح».

4
عاد سُليم إلى بيته، لكنه لم يعد كما كان. بدأ يُصلح السور القديم، ويزرع حديقته الصغيرة، ويُلقي التحية على من يمرّ. لم ينسَ، لكنه قرر أن لا يعيش في المقبرة التي بناها في قلبه.
وسمعت القرية بالتغيير، فتعجّب الناس. حتى رشيد، الذي عاش سنواتٍ في خوفٍ يلتهم لحمه، بدأ يخرج من بيته بخطى وئيدة، كأنما يستنشق هواء الحرية لأول مرة.
وفي يومٍ من الأيام، مرض رشيد مرضاً شديدًا. لم يزرْه أحد، فالأحقاد لا تُشفى بالمرض، بل تزداد جذورًا.
وسمِع سُليم بالخبر. جلس طويلاً يتأمل، ثم قام، وأخذ معه طبقًا من الحساء، وسجادةً صغيرة، وسار إلى بيت رشيد.
طرق الباب. فُتِح له من امرأةٍ عجوزٍ – زوجة رشيد – نظرت إليه في ذهول.
«جِئتُ أسأل عن صحته»، قال سُليم.
ودخل، ووضع السجادة جانب فراش رشيد، وجلس يصلي.
لم ينطق رشيد بكلمة، لكن دموعه كانت تقول أكثر من ألف اعتذار.

5
مرّت الأيام، وصحّ رشيد، لكنه لم يعد كما كان. تغيّر هو أيضًا. بدأ يزور سُليم كل أسبوع، يجلب له خضارًا من حديقته، ويجلس معه في صمتٍ جميل.
وفي ليلةٍ من الليالي، سأله رشيد:
«لماذا غفرت لي؟».
فأجاب سُليم: «لم أغفر لك. الغفران كلمةٌ كبيرةٌ لا أملكها بعد. لكنني قررت أن لا أكرهك أكثر مما كرهت نفسي».
صمت رشيد، ثم قال: «لقد عشتُ سنواتٍ أخاف منك، فنسيتُ أن أخاف من نفسي».
وفي تلك اللحظة، أدرك كلاهما أن الكراهية لا تقتل الآخر، بل تقتل صاحبها أولًا.
وظلّا يجتمعان، حتى صار الناس يتحدثون عن «العدوَين اللذين صارا ظلّين تحت شجرةٍ واحدة».

6
لكن القدر، كما يُحب أن يفعل، لم يُرد أن تنتهي الحكاية بسلمٍ وبسيط.
وفي يومٍ من الأيام، جاءت امرأةٌ غريبةٌ إلى القرية، تحمل في عينيها نارًا تشبه نار سُليم أيامه الأولى. قالت إنها ابنة رشيد من زواجٍ سابق، هجرها أبوها حين كانت طفلة، وأنها عادت اليوم لتطلب حقها… أو الانتقام.
سمِع سُليم بالخبر، فاشتدّ عليه الأمر. ذهب إلى رشيد، وقال له:
«ابنك عاد، فاستعد لعقابٍ جديد».
فأجابه رشيد بحزن: «إنها ليست ابناً، بل ابنة… وقد ظلمتها أكثر مما ظلمتك».
سُليم سكت. ثم تذكّر نظرات أمه حين كان يسأل عن الكراهية. تذكّر أن الكراهية لا تولد من فراغ، بل من جُرحٍ لم يُداوَ.
فقال لرشيد: «دعني أتحدث إليها».
7
قابل سُليم الفتاة، التي لم تتجاوز العشرين، وكانت عيناها تفيضان بغضبٍ قديم.
قالت له دون أن تعرف من يكون: «أعرف أنك صديق أبي. لكن اعلم أنني لن أسامحه، مهما فعل».
فأجابها سُليم: «أنا لستُ صديقه. كنتُ عدوّه».
فتفاجأت، فسألته: «وكيف صرتما اليوم كالأصدقاء؟».
فقال: «لأننا تعبنا من حمل السكاكين في قلوبنا. السكين لا تجرح العدو فقط، بل تجرح يد حاملها كلما شدّها».
ثم أخبرها بقصته، من أولها إلى آخرها.
بكت الفتاة طويلاً، ثم قالت: «ربما كنتُ أكرهه لأنني أردت أن يحبّني».
فقال سُليم: «ربما يكون قد كره نفسه لأنه لم يحبك كما يجب».

8
دخلت الفتاة على أبيها، وعانقته للمرة الأولى في حياتها.
وبعد أسابيع، أُقيمت في القرية وليمةٌ صغيرةٌ لجمع الأحبّة. لم تكن وليمة فرح، بل وليمة سلام.
جلس سُليم وحيدًا جانب النهر، يتأمل الماء. جاءه رشيد وابنته، وجلسا معه دون كلام.
وفجأة، قال سُليم:
«الكراهية ليست عدوًا يأتي من الخارج، بل هي مرآةٌ سوداء ننظر فيها فنرى أنفسنا مشوَّهة. حين نكسِرها، نرى أن العالم كان جميلًا، لكننا كنا ننظر إليه من خلف زجاجٍ ملوّث».
وفي تلك اللحظة، شعر الثلاثة أن شيئًا ما قد اكتمل.
لم يُنسَ الماضي، لكنه لم يعد سيد الحاضر.
ومنذ ذلك اليوم، لم يعد أحد في القرية يتحدث عن سُليم ورشيد كعدوَين، بل كرجُلين علّمانا أن أخطر أنواع النار ليست تلك التي تحرق البيوت، بل تلك التي تُبقي القلوب مطفأة.


الكاتب : أحمد بلحاج آية وارهام

  

بتاريخ : 12/12/2025