بعد قرون من السبات استيقظ «با عروب» بعدما ملت الشمس من تقليبه، نام مثل شباب الكهف دون أن يغمض عينيه، نام يقظا كالزومبي. ترك التاريخ يمر عندما كان يقتفي أثر أمجاد أكل عليها الدهر وشرب، كان يلمع المكان التي علقت فيه بكائياته. لو كان الكلب في القصة موجودا مكانه، لاستيقظ قبله من نومه الأنطولوجي.
وجد «با عروب»نفسه وسط عالم جديد، ثورة تقنية، مدن تكنولوجية التهمت الخيم، الصحراء ارتدت سراويل زفت تلمع ليل نهار، النخيل تجمد عواميد كهرباء تخرج الفوتونات عوض التمر، السيارات والقطارات طحنت الإبل والخيول، الطائرات عوضت الحيوانات الخرافية وتحقق حلم ابن فرناس المجنون-الكافر، القناديل احترقت بنور الكهرباء، والكاهن البئيس لم يعد يغادر محرابه ليحكم، اكتفى بحشر أنفه في بعض الأمور السياسية لمن لم تصله الأنوار بعد، الرعايا غدوا مواطنين، القانون أصبح يحكم بين الناس، ودور العبادة اكتفت بدورها فقط. صغر العالم حتى أصبح عشاء الأمريكي يؤكل في الصين. با عروب إنسان تجمد في العصور الغابرة، بعد استيقاظه من السبات الفكري الطويل، عوض أن يسبح مع الانسانية نحو الرقي والحضارة، أخذته عاصفة تحقيق أمانيه الحيوانية، بالرغم من كل السنون التي تعاقبت، لاتزال ملامحه تشبه صحراء بدون رمل، ولايزال لسانه لا يخرج من فمه إلا ليحرق الآخر أو ليلعق ذكرى إيروتيكية ليعوض سيفه الذي تجاوزته الأسلحة الحديثة، عيونه لا تتسع إلا عندما تشاهد مؤخرة تتحرك أمامه، أنفه الطويل لايزال يمتد محاولا أن يجاري أكاذيبه، ماتت الانسانية داخله وتقزم تعاطفه إلا مع من يشاطره نفس همه.
بالرغم من كل زلاته، التي تشبه لافا البركان التي تأتي على كل ما يشع بالحياة، كان القدر رحيما به وأعطاه فرصة ثانية لعله يعتبر من أخطائه السابقة، انفجرت في البيداء القاحلة عيون ذهب أسود، أخرجته من الجوع والفقر وأعطته كلمة السر للحاق بأقرانه في الحياة، طاقة سوداء تحرك العالم، ملكته الطبيعة مفاتيحها مرة أخرى. لكنه كان وفيا لعادته، استعمل أجنحته ليسقط قبل أن يتعلم الطيران جيدا داخل بحر نتن، فاختار أن يرجع العالم إليه عوض أن يلحق به.
ضاع «با عروب» وراء مغريات العالم الجديد المادية دون أن يكلف نفسه عناء السؤال عن ماهيته، أو ليعرف السبب الذي جعله يعيش على هامش التاريخ. أعماه الجوع، التهم كل ما جاء أمام نهمه الهمجي حتى تورمت بطنه، نكح ما طيب له البترول من نساء حتى جفت حيواناته المنوية، وشرب من الخمر كمية تتجاوز عدد أقداح الجنة. وبدأ ينشر جهله ويعيد إحياء الموتى ليشفي غليل حنينه الى الماضي. ولكي يجد لنفسه طللا جديدا، بعدما ذابت دور العاشقات في العمارات الشاهقة والمباني الزجاجية، يرثي نفسه عليه وشماعة يعلق عليها خيباته التي تسبب بنفسه فيها، تأبط جهازا أذكى منه. وانطلق في انتقامه من جهله، لعن الجميع، كفرهم بأنانية كي لا يزاحمه أحد في خلوده الإيروتيكي، بدأ يروج لأفكار لا تليق إلا بالعشائر، وتوعد الجميع بالجحيم كأنه يملك مفاتيح يوم الحساب. وعندما تخر قواه يلبس ثوب المؤامرة كحل أخير يقيه حقيقة النظر في المرآة.
تشكلت لبا عروب شخصية ازدواجية منافقة، يصلي متوضئا بالويسكي، يصوم بسحور كله لحم بشر مثله ، يزكي بأموال كسبها من بيع ذمته وراء الكاميرات، يرجم الشيطان بحجر إلكتروني وهو يعلم أنه الأولى بالرجم. كلما شعر أنه بدأ يكتشف زيف ما يقوم به ينظر الى جهله ويصرخ:
-أنا ابن عنترة، أنا الشجاع، أنا الذي سبقت الكفار الى كل العلوم…
قبل أن يقول إنه حفيد ابن سينا والرازي والخوارزمي وابن حيان…تذكر أنه كفرهم يوما ما، ومازالت لديه الرغبة في تكفيرهم أكثر حتى اليوم. صبغ لحيته كي يبدو جميلا، وأعاد النور لوجهه بمساحيق التجميل، ابتاع كل ما يضمن له تحقير إنجازات الآخرين ودخل في نوبة هلوساته وترك التاريخ ينساب من بين يديه مرة أخرى.
وبعدما انتهى من هرطقته، دخل با عروب مرحاضا عصريا، كي يثبت لنفسه أنه أيضا قادر على مواكبة العصر، بعد انتهائه من إفراغ ما علق في معيه الغليظ من غائط لم يخرج أفكارا، لم يجد حجرا يستجمر به، فخرج إلى العصر برائحته الراديكالية. فقرر مرة أخرى أن يعود إلى الوراء لعله يحصل على حجر لأن العصر الحديث مرحلة كافرة لا تصلح لخير من أخرج للناس…