قصة .. رقصة الذبابة

أخيرا سقطت الذبابة في الكأس، كانت تترنح، تئز بصوت بدا غير مسموع،أكاد أرى الصوت ولا أسمعه، وهي غارقة بجسدها الصغير في محيط زجاجي من البن، تقاوم نثار الرغوة بجناحيها شبه الغارقين، ترفع رأسها بمشقة كي لا تغرق،لا تستسلم للحظة الانغمار النهائي، الموت المحتوم.أنظر أنا إلى المشهد بتقزز، فقد كسر حادث سقوط الذبابة المقاومة واحتضارها الوشيك، طقس شرب القهوة وصفاء الذهن المنتزع بصعوبة بين صخور وأمواج تفاصيل النهار.نظر النادل إلى المشهد، فخاطبني وهو يبتسم مداريا حرجا يتنامى، قال: اللعينة تركت الفضاء كاملا، واختارت الكأس لتموت!
قلت وأنا أبتسم:إنه قدرها المكتوب سلفا، ربما لم تكن تتعمد السقوط..لم تكن كائنا كاميكازيا ولا أيقونة للشهادة،علها كانت تود أن تستكشف المحيط الزجاجي المختلف عن الفضاء العاري الذي غادرته..نظر إلي وقال:لا تكترث، سأحضر إليك قهوة أخرى. دنا من الطاولة، انتزع الكأس في تأفف، وكأنه يحمل تابوت موت مشؤوم،ثم غاب في الداخل. بقيت أنا أقرأ الرواية التي عزمت على إكمال أحد فصولها هذا النهار.
أنا في المقهى الآن،أختلي بطقس القراءة علني أكتب شيئا جديدا، فكلما غصت في سواد محبرة الآخر أدركت حجم نداءات البياض التي تتصادى على الورق.
أرتاح في المقهى،عند الظهيرة، مضحيا بطقس تناول وجبة الغذاء.أنا أفضل هذا الوقت من النهار للتفكير والكتابة، ربما هي عادة مكتسبة منذ أيام الجامعة.
حضر النادل ووضع كأس القهوة،وكأني أبدأ نهاري من جديد، أو كأني أبعث اللحظة المهدورة من أمداء عدمها.
رشفت من الكأس ملتذا، مبتهجا، بإعادة استئناف الطقس الحيوي، ضغطت على زر اليوتيب لأستمع لأغاني فيروز.
بعد قليل، لملم النادل عتاده، ولبس جاكيته الأسود مغادرا، استقل دراجته النارية «السكوتر» البيضاء، واضعا على رأسه خوذة الأمان كمحارب إغريقي.يحييني بنظرات مكتفية بذاتها، وناطقة ،أبادله التحية بيد ألوح بها نحوه في الهواء.هو من طينة أولئك الندل الذين يتركونك في عالمك الخاص، ولايشوشون عليك مقامك بأي شكل من الأشكال.إن وظيفته هي مرادف للكرم،فدوره أن يقدم للآخرين ماشاءت أنفسهم من مشروبات ليدجنوا سلطة الوقت الرهيب و ليعيدوا نسج أحلامهم المنفلتة:
«أحتاج، بشدة، أن يزورني هواء البحر، أن تلامس أصابع قدمي الأمواج الناصعة المغطاة بسحائب من الزبد المتناثر..أحتاج نهرا ليشرب تعبي، أريد مدينة لتسكن ضلوع أحلامي، أطلقوا الطيور من أقفاصها،ردوها إلى الغابات، حرروا الذبابة من قفص الزجاج..وأين راحت الذبابة الأسيرة،المحتضرة، الآن، ماعدت أسمع هسيسها الحيران ؟!»
كنت أحاول أن أتخيل وأفهم ما حدث للذبابة التي علقت في الكأس وحملتها يد النادل الجبارة، كما كانت ترمقها عينا الكائن الحشري،في خشية واستسلام للمصير المحتوم.ماذا حدث لها بعد ذلك؟ ألفيتني أفترض ثلاثة افتراضات على الأقل:
افتراض1:تم دلق القهوة من الكأس التي أفسدها سقوط الذبابة، في مغسل المطبخ السري الداخلي للمقهى والذي لا يرى منه،عبر نافذة صغيرة، سوى بعض الأيادي النسائية البضة، الصلبة والمقاومة،والتي أخذ لونها الأبيض يبهت بفعل ضراوة الجهد اليومي.
كانت تهتز الذبابة عبر أمواج الماء والقهوة، تسقط في العالم السفلي للمجرى،هل ماتت؟هل عاشت؟تتدحرج داخل المدن المهجورة للكائنات اللامرئية، عبر المجاري، يحملها الماء ويلهو بجسدها الساكن.كانت تهمس في حشرجة مطالبة بهوية ما، وتسأل استعادة حقها في التحليق عاليا،رغبتها في الكلام مع الهواء والظلال،هوسها بأحلام الحب.. بالتكاثر.. قول صوتها الفردي.ألا يحق لها الحياة كما يحق عليها مصير الموت ذات لحظة مجهولة؟! تتساءل وهي تتقاذفها آخر المويجات داخل ظلمات المجرى.
افتراض 2:الذبابة تعود لتسأل عنك، لتؤنسك في مجلسك في هذه الظهيرة الخالية..الذبابة تحيا، تنبعث في الخفاء بعيدا عن الأيدي الناقمة كالريح الهوجاء. لقد جف جناحاها تحت ضوء الشمس القليل المنعزل في ركن من زاوية مغمورة من المقهى،استعادت دبيب الحركة في مفاصلها المبللة،حرارة الدم التي تدغدغ رعشة النبض المستعاد.ما أشبه مسافات الزمن، بين الأمس والآن، رغم امتدادها:فانبعاث الذبابة من الموت المحقق داخل كأس القهوة،هو ذاته تقريبا ما حدث أمامي أو حدث ما يحاكيه ،على الأقل، منذ سنوات بعيدة. كنت حينها في حجرتي،أخط على الأجندة الذهبية بعض مقاطع من قصص جديدة وبعض التأملات،وأنا أرشف قهوة بالحليب، وأحدق بين الفينة والأخرى في المصباح المستطيل شديد الإضاءة الذي يغمر المكان باللون الأبيض الناصع.
أنظر إلى بياض الضوء وكأني أستعيض به عن رؤية عنفوان الشمس البعيدة،في الخارج ،فحجرتي في منزلنا العائلي كانت قليلا ما تتسلل إليها الشمس في فصل الشتاء.
فجأة، وأنا أهم بارتشاف رشفة عطشى، فإذا بحدسي ينبئني بالنظر داخل الكأس، لاشك أن هذا الحدس الخاطف ليس،في الواقع، سوى همس خفي من ملاكي الحارس. راعني مشهد الذبابة التي سقطت في غفلة مني، وهي ترتعش وتقاوم الموت.بدأت أنظر إلى مشهد الذبابة، كائن هش سقط عن جهالة وطيش أو عن جرأة،أو سقط لقدر ما داخل كأسي أنا،دنوت من الكأس، وأخذت أتفرج على حالها القدري الصعب، والذي جعلني أشعر للحظة بسادية الكائن البشري، وأنا أتخيلني أشبه بإله أسطوري بإمكانه أن يقرر مصير الموت أو الحياة للآخرين.
أدخلت سبابتي والإبهام وكأنهما فم ملقاط داخل الكأس ثم حملتها من خلال جناح مبلل، شفيف، كان جسدها جامدا وتبدو أنها ماتت، ثم وضعتها فوق المصباح المضيء لتدفأ وتستعيد قدرتها على الطيران، وكان ذلك أملا يبدو بعيد التحقق، ولعله تجربة مثالية وجودية لشاب يافع، وبعد قليل أخذت الذبابة تسترجع قدرتها على الحركة وكأن دفء المصباح أنعش أطرافها المتجمدة،بعث صوت الحياة وهوس الطيران بداخلها.أسمع أزيز جناحيها،ثم حلقت في الحجرة ذهابا وجيئة، وكأنها تحييني شاكرة قبل أن تطير بعيدا.
افتراض 3:وأنا أفكر في العثور على افتراض ثالث للغياب المصيري للذبابة، سمعت أزيزا خافتا، سرعان ما أخذ يتنامى الصوت واضحا،ثم حادا، كانت الذبابة العائدة تحلق بقوة وحيوية في مداي،هل هي ذات الذبابة الميتة..الذبابة القربان، كما أفترض، وقد انبعثت من جديد من الموت في الكأس؟
هل هي ذبابة جديدة ،هاربة، تمردت على سلطة القبيلة؟
أراها تحلق بقوة كطيار كاميكازي صوب الكأس..كأسي أنا..كأسي الثاني..هل سأحتاج إلى كأس ثالث لأنسى طقس شرب القهوة المتمنع في قوة وغرابة؟
أكاد أنهي الفصل الأخير من رواية جعلني الشغف أعبر ضفة الظهيرة إلى بحر الثالثة والنصف عصرا..تحلق الذبابة بقوة كسهم لايعرف معنى التراجع ،إنها تقرر أن تموت في نهر الكأس شهيدة كما يبدو،أهش عليها براحتي، تنفلت نحو الأعلى وتستدير ناسجة دورتين، في الهواء وكأنها تستعد لرقصة الحياة الأخيرة، تعاود التحليق صوب الهدف الجلي، الراسخ..أقرأ سلوكها وهي مازالت تتهيأ للانقضاض،تحلق من جديد بقوة انتحارية، فأضع راحتي اليمنى على الكأس بكل قوة وإحكام كغطاء صلب، صارم، تصطدم بسطح يدي،وتسقط على الطاولة، ترتعش، مازالت قادرة على خوض تجربة تدمير الذات.
أهش عليها من جديد، بعض الهواء من حركة يدي ينعش روحها، حلقت في المدى، مداي، وفي تلك اللحظة،عبر رصيف المقهى سرب فراشات بدا مملوء بزهو الربيع وشغف الحياة وقد انسلخ للتو من الشرنقات.
خجلت الذبابة من يأسها ونزعتها التدميرية ثم طارت إلى شجرة النارنج على الرصيف، وحطت فوق نارنجة بليلة، براقة،وظلت ترنو إلى كأس القهوة على طاولتي، في حيرة.كأني فككت شفرة هواجسها، رشفت مسرعا ماتبقى من القهوة دفعة واحدة، ثم نهضت وأنا أتلمظ لذة البن الغامرة بنكهتها القوية، أحمل الرواية في يدي، منسحبا، بعدما كنت قد أنهيت قراءة فصلها الأخير.


الكاتب : رشيد مليح

  

بتاريخ : 30/05/2025