قصة قصيرة .. أول الداخلين إلى مملكة الحرف

مهداة إلى القاص أحمد بوزفور



أغير الملابس في الغرفة وأنا أنظر للمرآة. أتفحص جسدي بعد اللباس الجديد، ويبدو لي أنني لم أتغير، ولم أصر كائنا آخر الذي كنت أرجو أن أصيره. أبكي علي ويصيبني الإحباط. أردد مع نفسي بأن الإنسان لا تغيره الملابس، ولا النقود، ولا الأمكنة التي يسافر إليها. زوجتي تضحك من بعيد وتقول لي:
لا أدري كيف فزت بهذا الجمال –
أمتنع عن مبادلتها الضحك، ثم أجيبها:
-يا ليتك تصمتين .. ولا تقولين باستمرار ما لا يوجد
تنهض مسرعة نحوي وتعانقني. أعانقها ثم تبكي وتعود الى حيث كانت جالسة. أودعها وأخبرها بأنني خارج لأتجول في وسط المدينة.
أمضي في الشوارع ورأسي مليء بالضجر. صخب الناس والسيارات يتضاعف. أغلي من الداخل وأفقد السيطرة على مشاعري. أفكر أين سأقضي المساء وأنا أمشي وأمشي. أتذكر في الطريق ذلك المقهى الذي لا يجلس فيه سوى الكبار وأذهب إليه.
أصل للمكان وأدخل باحثا بعيني عن الكبار. لا أحد اليوم جالس ها هنا. الكبار لم يأتوا للمقهى اليوم. ربما السلطة منعتهم من لعب الورق كما كانوا يفعلون فقرروا تغيير المكان، أو ظلوا في منازلهم وهم ينتظرون الموت. أقترب من النادل وأسأله عن الكبار. يتحاشى إجابتي ويمضي ليوزع طلبات الرواد. أتابع حركاته وأخمن في ما وقع. يقول لي من بعيد:
-لا أدري أين ذهبوا.. أحد الكبار في الطابق الثاني وحيد، وهو لأول مرة يأتي لهذا المقهى.

أصعد وأنا في حيرة من أمري. أوزع نظراتي وأجد الطابق الثاني شبه فارغ. أرى الكبير في الزاوية وقرب النافذة وحيدا. أقترب نحوه شيئا فشيئا. وفي كل خطوة أكتشف أنه ذلك الشخص الذي لا أعرفه سوى من بعيد. أسلم عليه وينهض لمعانقتي. أعانقه وأشعر أنني أعانق أناي الثانية. أجلس قريبا إليه، ثم أسأله:
-ماذا تفعل هنا يا كبيرنا في القصة والكتابة؟
يضحك القاص أحمد بوزفور ثم يقول لي:
-أنا لست كبيرا سوى في العمر .. أما في الكتابة فيوجد الكبار أكبر مني.
أشعر بالحرج ولا أجد ماذا سأضيفه بعد جوابه. أفكر في قول أشياء كثيرة ولا تسعفني الكلمات. أخرج ورقة من حقيبتي الصغيرة وأقرأ على الكبير مسودة في طور الكتابة.
أنتهي من القراءة. ولا أطلب منه رأيا في ما قرأت عليه. ينظر إلي خلف نظاراته ثم يقول لي:
-أنت مقتصد في اللغة وبسيط في الكتابة. إذا كنت بسيطا في العيش أيضا فهنيئا لنا بك وهنيئا لك.
يصمت وأسأله:
-كيف تعرف القصة القصيرة وأنت منذ زمن تكتبها ومتزوج بها ؟
يقهقه ويرشف من قهوته ويقول:
-يمكن أن أطلق تعريفا على أي شيء، ما عدا القصة القصيرة. هذا الفن لا يشبه أي فن آخر. فقط يشبه لنفسه، ولأنه كذلك فيصعب علي أن أقوم بتعريفه. ما يمكن أن أقوله هو أن القصة هي الحياة. العالم بدأ قصة وسينتهي كذلك.
يهم بالمغادرة وأطلب منه الانتظار فيلبي طلبي. أسأله:
-كيف لي أن أفعل كي تكون القصة قريبة إلي؟
يجيبني بدون تفكير طويل:
-عليك أن تتزوج بها وأن تعشقها بجنون. بعد ذلك ستحبك هي أيضا وستظل بين الحين والآخر تأتي إليك راغبة فيك.
يتأبط بعض الكتب والجرائد بين ذراعيه ويغادر المقهى .. يغادر وقبل أن يغيب. كان يبدو لي حكيما وقاصا ومبدعا.. وفنان يمشي كجميع البشر، ولكنه لا يكتب كجميع الكتاب.


الكاتب : إلياس الخطابي

  

بتاريخ : 19/08/2025