قصة قصيرة : السيجارة الأخيرة

 

يصعب عليك اعتقال شرودها المستمر، داخل زجاجة عبثية..تبحر على مهل وتنتظر شهقة رسالتها بصدر عابر ليل.. يتأمل بدوره خلاص أحلامه، على صهوة قمر أو نجمة مسافرة..أو حتى نيزك فضائي يسقطه بأرض غير التي تتبرأ من حذائه الشاحب النتن…فيطير ثلاثتهم نحو الأمل. حذاؤه..شرودها..و الرسالة !
الذي منحها لقب «ماء العينين» لم يكن يدري أن مقلتيها تمردتا على جذوره الصحراوية، فلم تكن يوما قاحلة، ولم تدخل سنينها العجاف..ولم يصبها قحط الأجداد..ولم ترفع رموشها لافتة غيث واستغاثة..
لكرم عينيها صلة وصل بلقب أصله عبرات..! «
-(ماء العينين «!).. لم يُجد العبور نحو الضّفة الأخرى، حيث الفرح قابع بزاوية فمها، على استعداد تام لانفراج عينيها الغائرتين، وسط وجه شبه منحرف..لا هو بالدائري، ولا بالمثلث..ولا هو متاح لقلم فنّان مال..فاستمال..فرسم وتفنّن !
ماء العينين بهيجة !
يالشواظ الاسم الذي يصرّ سقيها وهج الصحراء وحرّها، بظرف مغلق يهوى تصيّد الخبر، على دفعات..في قاعة انتظار نتائج التحاليل..
ارتعشت أصابعها كثيرا قبل أن تفتح الظرف، وتقرأ..فلا تقرأ ! فركت عينيها بأصابع مضمومة نحيلة، لتخرّ قواها جاثية.
لم يأتها الموت نظيفا، وجاءها بدم ملوث على هيئة ظرف مغلق، فكان الوقع أشدّ عليها من رصاصة غارسيا لوركا!
التقته أمام قاعة سينما، وجهه لم يكن غريبا !
تأمّلته خلسة وهو يستفسر عن فيلم السهرة، أمام شباك بيع التذاكر.
كتفاه عريضتان، حركة يده وهو يلوٍح بسلسلة مفاتيح فضيّة مزيّنة بنسر يكاد ينقضّ من بين أصابعه الطّويلة السّمراء، لتنتهي بين يديها مصافحة، في كيد مدبّر رأسه بهيجة..
لم تتعرفه، لكن أسعدها أنه لم يكن يضع خاتما ببنصره الأيسر، فافتعلت حوارا كان مطية لقاء أجلسهما جنبا إلى جنب، بقاعة احتوت حرارة جسدين، يؤجج جمرتهما فحيح أفعى شاشة الليل الكبيرة..
كانت البطلة تركية جميلة، كالّتي تراها بمجلاّت الموضة، جسمها متناسق، وعيناها حوراويتان. تضع أقراطا صغيرة جدا بأذنها، وتزين عنقها بسلسال قصير ذهبي يكاد يخنقها..يمسك البطل التركي بيديها، ويغدقها من الرومانسية مايعجز الشعراء عن نظمه!
تجوّلت يد الغريب بكل المناطق بجسد ربيعة النحيف، فاستلمت عنه نهاية فيلم السّهرة، فكان المقام ببيته علّها ترى نور ملامحه، فتتعرّفه..
وهو يدخّن سيجارته الأخيرة، نفث جسدها عبر دخان أسلمه أنفاسه، متأمّلا وجهها ، وكأنّه يراه لأول مرة..كانت ترتدي قميصه الحريري، وتضع على رأسها منشفة صغيرة، وخصلات شعرها الفاحم المبلّل، لم تفلح في إخفاء وجهها شبه المنحرف.
تزداد عينا الغريب ضيقا، حتى تكاد تشطف وجهها وجسدها من بلاط غرفته، لترميها خارجها..وكأنه استفاق من حلم احترق نوره..يرمي بوجهها ورقتين من فئة المئتي درهما، قبل أن يشير إليها بالمغادرة.
-تكفيك لمشاهدة عروض السنة السينمائية !
-ماء العينين بهيجة !
تردّد الممرضة..
يتردّد الصّدى برأسها، وكأنها في قعر بئر قاحل، بيدها ظرف ملوث ..تتراخى قبضتها، فلا تسمع اسما آخر غير اسم الوباء اللعين
.. «دلتا» ..»دلتا» ..تتلاشى الكلمات رويدا برأسها، ثم تغيب من جديد، عن الوعي.


الكاتب : رشيدة محداد

  

بتاريخ : 07/04/2022