حدث شيء ما تلك الليلة، حين نظرتُ من نصف هلال القمر. لدرجة أن صراخ الهواء الليلي محمّل برطوبة دخان أفران الخبز التقليدي، وأشجار الرمان، والطلح.
لبس رداء أبيضَ ناصعًا، وخنجرًا فضيّا لون القمر في وسطه بعدما انتعل بلغة بها نتوءات وجروح قديمة، تستطيع مقاومة قساوة الزمن والبقاء بحالة جيدة لأعوام. تحت صفير أجنحة الليل أصدرت حشرجة وهي تزيح الحصيات بأطرافها كصوت بدء اجتياح الفيضانات على الصخور في اندفاعات متواصلة. حملت شاحنة صغيرة الطبول. في خضمّ النوم والكسل احتكت الأكتاف داخل العربة، بينما التفت سالم إلى فرقته، ولم يلحظ في سكون الظلمة الباهتة إلا عماماتهم المخروطية في التواءات نحو الأعلى، تُخفي وجوههم الذابلة السمراء تحت وطأة التجاعيد التي لم تكن كلّها بفعل الحياة، أغلبها ترسّخت مع تزامن تشقق الطين اليابس بفعل الجفاف وهموم أعوام بأسرها.
تهتز الآلات الموسيقية في جلبة وراء الشاحنة، بينما لمح فارس حقول البرسيم والذرة المنحنية إثر نسمة ريح هبّت بلطف. فرك يديه لاستباق الحدث، وجمع أشتاته بجهد واضح:
شدوا حيلكم يا رجال، الليلة ليلتنا
نزل ركب الرجال بجلابيبهم البيض الخفيفة كأشجار نخل فارعة الطول، وولد سالم بينهم كزرافة بعمة بيضاء تلتحم لأول مرّة أقدامها على الأرض الخصبة في استباق مع الزمن، كأنه غريب عنهم. يبتسم في جنب فمه الأيمن ابتسامة جميلة وسط صحن القمر الفضي. تثاءبت الأفواه، وتقابلت الوجوه في استقبال أول خيوط الظلام، حتى ارتفعت أمامهم قلعة بقيت خالدة، يتوهّج الضوء من نوافذها حجم جسم إنسان، كانت تلك قصر القائد عياد الجراري. استقبلهم صاحب الدّار بوجه ناعم السواد في ردهة واسعة يعبرها خط عين مياه «حسون» في صمت، تمتم ولد سالم بشيء يشبه المديح، قائلًا:
البستان، جنّة، هذه المرة الثانية التي نزور هذا الدوّار، الأولى كانت في عُرس ولد عابد…ما شاء الله، كله زين.
روت الفرقة جوعها بما جاد به صاحب البيت من عسل، سمن، زيت زيتون. الجميع يحبّ الكناوة الجرارية، يحضرون حفلاتهم ومواسمهم أينما حلوا وارتحلوا لذلك دعاهم القائد عياد لإحياء موسم القبيلة. امتلأت الساحة الكبيرة بالكراسي والعيون البشرية، فيما تساقطت السماء ورودًا زاهية مع حفنات تمر ناضجة بعد دخول فارس وفرقته. ظلال عيونهم البعيدة تعتلي صرح الحياة في تصفيق وصفير غير منقطع تنشره رياح وتطويه رياح. تَذكر فارس وهو يسخّن الطبول على مقربة من قبس نار وسط الساحة، أجيال مرّت كانت مثالًا يحتذى به في ترسيخ روح كناوة، بدءًا بالحاج ديدي رحمه الله…ذراعاه الطويلتان ترك عليهما الزمن دروبًا رشيقة كادت تلمس الأرض، وكلما وطأت قدماه المفلطحتان كالرحى حجرًا انفلق يعانق السماء ويسرق منها قبسًا من ضوء. أما فولد سالم، اعتاد شرب كؤوس شاي أصيلة مع أبناء بلدته في الساحة، ومن حسن حظهم أن جسده لم يسعفه وإلا هزمهم بحنجرته المبحوحة بأعلى صوته دون أن يزعج أحدًا. والحاج بشير يذوب في الرقصة ويختفي حتى يبعث من جديد غمامة كبيرة، احياها العظيم برقصته الخالدة، قلت حينها:
فقدنا زئير رجل، وكأن الصانع صنعه لذلك
خناجر زينتهم تبري على أجسادهم الحيّة تاركة خيوطًا بيضاء محملة بالأمل.
مسح على ميناء الطبل الدافئ بضربة، ضربتين، ليشير بجاهزيته، لكن تفكيره ذلك المساء كان عالقًا. طاف ببصره على نسوة الدوار بملاحفهنّ المتعددة الأصباغ، نسوة بيض، وسود، وحُمر، لا يظهر من وجوههن إلا عيون سماوية حسان. يجلسن متلاحمات. فجأة، ماجت الزغاريد في فجوات ملاحفهن في الجنبات وما حولها.
انعكست رائحة التراب على ثقوب شبابيك المنازل لتضيء الوجوه السمراء كأنما قطرات ندى مستلقية على أوراق زيتون. أغلقت الدكاكين، وتوقف سرب العصافير عن الحومان حول سفح الجبل منذ أن أحست بسخونة الحلقة الكبيرة المحيطة بالهواء الرطب، لدرجة أنها انضمت إلى المعمعة بأجنحة ثلاث ورباع…لكنها إنسانية، تصدح بروح الأرض. جلس القرفصاء وسط الحشد يعلّق الطبل على كتفه، ويضرب بعصيّ معقوفة الطرف في تجريب متوازن…دقة، دقتان، دقة…وبؤبؤا عينيه مصوّبان نحو رصّ الصفوف. بدأ الناس ينظرون بشوق قديم فيه صوت الحياة الجميل في كل أحد، وفي كل ذلك العدم الثابت. اختلطت روائح الطبول بالنفوس والكافور والبخور. توسّط الفرقة بكلمات الابتهال، والمديح على الرسول صلى الله عليه وسلم اجتاحت الأرواح والجبال تحت تصفيق الحضور، لتتّسع هوة الصمت فجأة حتى امتلأت بالإيقاع البطيء…بقايا ذكريات، رائحة ياسمين تصل الآذان محملة بتاريخ قبيلة، أفراحها وأتراحها، تدخل الروح بلا استئذان، تقطع كل ما يتصل بهمومهم تحت سكون وهج مصابيح الساحة، مخترقة شبابيك مسامهم الضئيلة. قلت في نفسي:
لو لم تكن كناوة لتوقفت الحياة عن الجريان، ولتوقف نبض قبيلة أولاد جرار عن الخفقان.
بدأ يهدّ على الطبل ضربات متعالية تتناغم مع الدفّ في رشاقة، يوشك أن ينفجر من شدة الخبط. تخرج معها الكلمات سلسبيلًا يضمّد الجراح. توازا الصفان في تقابل، يقدمون أرجلهم اليمنى تارة، واليسرى تارة إلى الأمام في نظام عجيب. وتعالت القباقب تحت شذرات النيران. رمّشت عين فارس، وبدأ يحسّ برودة ساقيه رغم الحرارة التي تتفجر تحت الأقدام. جبهته متماسكة لكنها ندّت عرقًا وهو يدقّ على الطبل في الأفق سابحًا في كلماته، مشيرًا للصفّ بالميلان إلى اليمين والاقتراب من الحشد شيئًا فشيئًا. فيما كان ركبٌ من الشباب يمرّرون الطواجين للعشاء.
تمازج الصفّان في استعراض بديع جعل الأيدي تصفق مدهوشة. يتماوج الصفّ الأبيض ويتسع، يضيق أحيانًا، ثم يشتدّ التصفيق، وتختفي الأرجل أحيانًا أخرى، ثم يقوى وقعها على الأرض. في خضم الزخم، أشار بيده في حركة دائرية إلى الأعلى كأنه يلقي تويج الزهور على الجمع الغفير. وحرصًا على تقويم الصفوف هزّ كتفيه، هزّت الفرقة كتفها سواء بسواء. تعالت الأصوات وذبذبات الطبول…ضرب فارس برجله على الأرض، يتقدّم إلى الأمام ثم يتقهقر إلى الخلف خطوة كأنما تتلاعب به قوى غير مرئية، روح قداسة ما، ارتدّ ثوبه بحركة مباغتة. هتف بصوت صادح يقفز بالفرحة على أسطح المنازل، الشجر، الجبال، الفدادين…كنت أحسّ أني أراقب صلحًا بين الماضي البعيد الذي فقدته في راحة يدي والحاضر المتسع.
تتابعت اهتزازات أكتافهم، واصطفّت كجدار طويل إلى أن عانقت السماء الزرقاء كتلة واحدة. كانوا يقفزون فوق قواعد الكون. يأخذون لقلوبهم بعض الفرح في إفراغ ما في جعبتهم من زئير. والطبول تتناوب دقات منتظمة، لا تكاد تُرى من كثر الدواران، لكنها تصدّع الأسماع. وها هو فارس يقفز قفزته البهلوانية بنصف جسده النحيف تحت جلبابه القصير، طوّقت الريح هيكله، ساقاه وراء غمامة غُبار.
ارتفعت كؤوس الشاي في الهواء، وصهيل زغاريد النساء يصمّ طبول الآذان. تصلصل القباقب وتميل جيئة وذهابًا في أناملهم، ليتحرك خطّ السير خطوات نحو الأمام عائدًا ككتلة جبلية، مضغوطة، متّزنة، لا تُزحزحها الريح. تأملتهم صامتًا، بالرغم من بطونهم النحيلة، فأغلبهم عجائز شباب، وأغلبهم ماتوا، لذلك يظنّ الناظر إليهم رموزًا بشرية خالدة. فإذا بخاخ عطور رخيصة ينثر رذاذه عليهم، نظرت إليهم قائلًا:
أولاد جرار تاريخ قبيلة، حياة، حب يسري في العروق.
خلف فرقعات الطبول المعذبة بهواجس الحياة والموت، لكن الحياة فيها طاغ، ثم فجأة سمع دويّ الرعود، وسالت العيون بالماء، والأمطار تتحرّر من فتحات الضباب تنظف أكوام الحجارة والنفوس. قفز فارس، وقفز الكلّ معه…دار بجسده دورتين، ثم أفلت يده نحو الأسفل، هدأت هزّاتهم على الأرض. فيما كان الطبل يتابع…ضربة، ضربتان…يطفو بالنغمات لمدة طويلة في مستوى الهواء مع القباقب. وبحركة مباغتة هتف بصوت صادح:
العفو يا مولانا…العفو
جاشت الحياة في القبيلة على خطوط خرير عين مياه «حسون» والرقص. عبرتْ معها زهرة الحبق فوق رأسي من الموت إلى الحياة، والقرية التي حملتها في صدري منذ الصغر كلّ تلك الأعوام كانت حقيقة لا خيالًا، ولفّ زحام أرواحهم يتصّاعد بتناسق، ولم أكُ أظنّ أنهم سيرحلون في يوم من الأيام وراء هلال القمر.
قصة قصيرة .. الكناوي

الكاتب : هيثم همام
بتاريخ : 11/07/2025