قصة قصيرة : الوصية

 

البداية

انتفض في فراشه وقام منزعجا من شدة الألم، هذا الألم الذي لم يعد يفارقه، رغم كل ما يتجرعه من أدوية طول اليوم، قد كان دائما مؤمنا، بأن ليس للعطار القدرة على إصلاح ما أفسده الدهر، لكن مع ذلك، انسل من فراشه على مهل دون أن يحدث أي صوت أو حركة تزعج تلك المرأة التي تنام إلى جانبه منذ سنوات طويلة، هي أيضا لم تعد تلك الشابة الجميلة التي تتمتع بالصحة والنضارة، لا يريد أن يوقظها من نومة ترمم عظامها المتعبة، لا يريد أن يراها مثل العادة تقاسمه الألم.
بعد أن وقف على قدميه، كان يمشي مستندا إلى الجدار صوب باب الغرفة، وبعد خروجه أغلق الباب وراءه على مهل وببطء شديد.
ثم توجه رأسا إلى المطبخ، ورغم شدة ما يعانيه، استطاع أن يهيئ قهوته السوداء، التي تساعده على تحمل كل هذه الأوجاع، خصوصا حين يرفقها بسيجارة صفراء من النوع الذي كان يفضله دائما، يتذكر نصائح الطبيب لكنه في غالبية الأحيان لا يهتم.
وضع علبة السجائر وفنجان القهوة على حافة المكتب، وضغط على زر تشغيل الحاسوب، وبعد أن أشعل السيجارة وتلذذ بها مع عدة رشفات من القهوة، وجد الألم يخف شيئا فشيئا، وبدأت أصابعه تتحرك على امتداد مساحة لوحة المفاتيح، وكانت الحروف والكلمات تتشكل على الشاشة، بأشد ما تكون عليه التلقائية، لقد قرر أن يكتب وصيته الأخيرة، ويضمنها بعض متمنياته التي لم يبح بها لأحد، حتى تلك الساعة، قطعا، لن يتعلق الأمر بإرث سيتركه، لأنه أصلا لم يملك في حياته سوى أشياء بسيطة.

النص

يوم أموت، أريد أن أختار موطني الأخير، عند أقدام جبال الأطلس المتوسط، ليس أصلي من هناك، لكنني حين بلغت ذلك المكان، شدني برابط قوي اخترته كهوية بديلة، لم أمل يوما من العودة إليه في حياتي.
لن أكون مهما بعد الموت، هي جثة كأي جثة، لكنني أحب أن أكرم التراب الذي سوف يتبقى مني ساعتها، بأن يمتزج بتراب تلك الجبال، أن يحمله جريان أم الربيع، وتسافر به نسمات الهواء وهي محملة بأريج التفاح والمشتهى من الفاكهة من بساتينها الفيحاء، أريده أن يتجلى كغبار، في مشاهد الجبال الخضراء البهية الباذخة، حيث الطمأنينة والسكينة، وحيث لا حديث سوى للغات الطبيعة.
يوم أموت، لا أريد حزنا أو بكاء، أريد حفلا صغيرا يضم كل الذين أحببتهم، أريد أن ينبشوا في المشترك بيني وبينهم ويضحكون، حين يتذكرون أن دورهم قادم، بعد أن يستودعوا جسدي الميت، الثرى في قبر بسيط، مثلما كانت حياتي، ثم ينسوه، بعد عودتهم إلى تصريف أيامهم ويتذكرون، لقد كان بيننا، وكان، وكان، لكنه الآن دخل في رحلته الأخيرة.
أريد أن أختار أبديتي وكيف أعانقها، على الأقل، مادمت لم أختر مجيئي إلى هنا. لم أختر اسمي ولم أختر حياتي.
لأن الوداع حتمي، والرحيل بعد كل هذا العمر صار يتربص به على بعد مرمى حجر، فعقب عبور كل الفصول، بلغت الخريف، وصارت الأيام كأوراق شجرة تتساقط، أريد أن أكتب وصيتي، بشروطها الصعبة وكلفتها الزهيدة، مادامت عقارب الساعة تسعفني ولم تتوقف بعد، هي أمنية أخيرة، عزيزة على نفسي، أريد أن أخلفها ورائي للذين أحبهم، للذين كانوا دوما حريصين على إسعادي، ليس من أجلي، لأنني سأكون قد استأنفت سفري في الغياب، ولكن من أجل هذا الجسد الذي كان رفيقي كل هذه الرحلة الطويلة.

الرحيل

أخذته نومة مفاجئة ، فوضع رأسه على المكتب واستسلم من شدة العياء، وحين فتح عينيه كان ضوء الصباح يملأ جنبات الغرفة، وكانت زوجته فوق رأسه تؤنبه على نومته تلك، وتدعوه إلى الإفطار كي يتناول أدويته، هو لم يمت بعد، لكنه استطاع كتابة وصيته، وهو يعد خساراته، وأوهامه التي تحطمت، يتذكر أشخاصا وأشياء وعلامات ضاعت منه في الطريق، وكان إلى وقت قريب لا يتخيل العيش دونها، مدركا أن لديه قوة خفية مكنته من القفز والتجاوز، كل ما فقده، وحوله إلى إنسان آخر يكاد لا يتبين ملامحه، إنسان مغلق بالكامل، لا يستطيع أحد أن يقرأه، كما أنه لم يعد متاحا لأي كان، هو يعرف أن التغيير قانون أساسي وصارم في الطبيعة، لكنه ظل حتى الآن، مصرا على الاحتماء بهذا الرداء القديم الذي لم تعد له القدرة على منحه حياة جديدة، لكنه لم يمت بعد….
بعد مدة، أعلن خبر وفاته، فغسلوه وكفنوه، ووضعوا جسده في خرقة بيضاء ثم حملوه إلى مقبرة مدينته المتسخة والعشوائية، التي لا يحبها، وكان بين من شيعوه أشخاص لا يحبهم، وبعد أن وضعوه في أقرب حفرة متاحة، أهالوا عليه التراب، وعادوا إلى بيته كي يودعوه بتلك الطقوس المعتادة التي لا يحبها.
لم تتح لأحد فرصة الاطلاع على وصيته الأخيرة، التي احتفظت بها ذاكرة الحاسوب، سوى بعد انقضاء سنوات على رحيله.


الكاتب : سعيد الحبشي

  

بتاريخ : 18/10/2024