قصة قصيرة : بحثا عن الحقيقة

**إلى متى ؟!!! ماراطون أحمق لم ييأس من العثور على جواب منقذ، والحاصل وما فيه، ما زلت طامعا في لقائها، العراقيل والحواجز الشائكة لن تهزم عنادي الأبله، سألتقيها وأعريها أمام أغراب الدمار القادم.
حاولوا معي مرارا لصدي عن هبل العشائر التائهة، قالوا لي: «يا ولدي دع عنك وهم اليقين المستحيل! يضيع عمرك في المطاردة السريالية، تقودك عذابات الفكرة الخاطئة لزنزانة الملاعين، وتعيش ما تبقى من أيامك جثة محشوة بادعاءات سائبة!»
قبل ذلك، قيل لي: « الرفيق قبل الطريق «، صدقت القول، امتلأ صدري بعطر حبيبتي، تشابكت أصابعنا، تعاهدنا على أن نعيش الحقيقة دون تعقيدات، على إيقاع هدير حائر وشواهد منقوشة فوق قبور موتى بلا أسماء، لم ندر كم مر بنا من الزمن، وحده خدر البحث عن ذواتنا المستباحة قادنا لهاوية غامضة أوقفتنا حيث لا نشاء.
تعويضا عن الفشل في الوصول إلى ماهية السراب، استسلمت لغريزة الاحتضان ولذة الاحتواء، واصلت تحريضي ضد الأوامر والتعليمات، أخرجت مستندات الوجود من جيب القميص الأبيض، وبكل ما يلزم من التواطؤ بين حبيبين يتأملان لوحة الغروب الحزينة، غرقت في بحر الهمس والعناق والقبل وتجاهل غباء العسس وفضول الموتى المتسلطنين مع صمت الفناء.
نسيت أنني نويت البحث عن عز الطلب، سمعت وعودا، التزمت عهودا، أكملت احتضان ظلمة الليل، اختفت عني مويجات الشهادة المزعومة، انتبهت لغياب النباح البعيد، واخترت المسير نحو منارة ترسل ضوءها لجهات بعيدة في الظن والتقدير.
اختبأت الحسناء خلف باب سيد المقبرة، استأذنت أمين الضريح في النوم قرب تابوت سيدي عبد السلام الجبلي، وفي دعائها المسجوع، طلبت من دفين الشاطئ المأجور تسهيل ارتباطها بحارس الصخور الأعمى وتجاهلتني أنا المهووس بالعثور على من تفوقها جمالا ودلالا.
دخلت المدينة لكهوفها، تساءلت عن سر الخيانة، لم أعثر على الحقيقة، ولم أتخلص من صدى الخواء، معظم الشوارع مهجورة، ومن نوافذ التعايش المقهور، وصلتني صرخات استنجاد وتحذيرات، إياك أن تصدق الكلام، قالوا، حيثما كان اللغط والأخذ والرد فتمت أكاذيب وأوهام وخزعبلات، ولا أحد ينتبه لضحايا التأويل الخاطئ!
والحقيقة.. أية حقيقة؟! حقيقة أنك تقرر الغياب النهائي وتنتحر، كل ما في الأمر، هي كذبة أخرى تخفي غياب الإرادة، طبعا أنت تتوهم الحرية كي تختار ما تريد، لكن هم من دفعوك لليأس الكبير، راوغوا وناوروا ولفقوا التهم والتخريجات، أسلحتهم المتنوعة فتاكة دون تعب، مسمومة دون ترياق، وأنت الوحيد الأعزل في ساحة حرب هم من اختاروا جغرافيتها، وحين يخيل إليك أنك حددت نهايتك بمحض إرادتك يكرعون الأنخاب ويضحكون ويرقصون ويغنون « لا جريمة في الواقع ولا تهمة في الأفق! «
اقتربت من حانة مطعم، هجمت علي موسيقى هادئة، فكرت في عصيان الظلمة وخواء الشارع الطاغي، تجاوزت الباب، زبناء قليلون يهمسون لبعضهم البعض كأنهم خائفون من الكلام وتبعاته، يحيطون بموائد فوقها طواجين وأطباق عجيبة الأشكال والمحتويات وقناني وأكاليل ورد وشموع، فحصت المكان بعناية، يبدو أن الأسعار هنا تقام بغسيل الفندق، عدت أدراجي وتلقفني الشارع بصقيعه المريب.
تجاوزت بحذر حاوية أزبال مكسورة الجوانب، حولها كلاب وجرذان تفوق القطط حجما وشراسة، وفي زاوية تقاطع فيها شارع الشهداء بشارع الصدر الأعظم، وصلتني أصداء أغنية ملأت الدنيا زعيقا واعترافات، «خلا دار مها داتني عند الجدارمية و نا هاز معايا حليب الريكار «، تتبعت مصدر الغناء، وجدتني أمام مدخل متآكل لحانة مكتظة بالضجيج والأحزان، تمنيت العثور على الحقيقة، وسبحت وسط اللغط والعتمة وأمواج الأدخنة الحرام.
اصطدمت بمائدة خشبية ودعت طلاءها الأسود، استقبلني النادل بابتسامة صفراء، طلب مني الانتظار حتى يعثر لي على مائدة شاغرة، دخان السجائر الملفوفة بالحشيش يجعل الرؤية صعبة، وزحمة الشاربين تعيق الخطو إلى الأمام، ومكبر الصوت يجعل بحات الشيخات المسعورات مسيطرات على الفضاء، مرت الدقائق بطيئة، نبهني النادل إلى مائدة قرب باب المرحاض الأرضي، عبرت عن تقززي، وبما يشبه الاعتذار قال لي : «هاذ الشي اللي اعطى الله».
حمل النادل خمس قناني جعة رخيصة فوق صينية مشقوقة، راوغ الزحام، لم يمسح المائدة، ترك دسم مادة غامضة يرسم خرائط مستوحاة من جحيم التهيؤات ، أوقف في الوسط كأسا تليق بشرب قهوة رديئة، فتح القناني بحركات آلية تتوهم تقديم الفرجة وانصرف.
ما علينا، ارتخت الأعضاء، قادتني بدايات الخدر اللذيذ لأدغال الحوار مع الذات، طبعا الضجيج المختلط بصياح الشيخة وصوت الكمان المبحوح مع حشرجات الشيخ البليد منعني من التركيز على موضوع البحث عن الحقيقة، وسكارى الوقت المشحون بالعجز والاستسلام ومرارات الفشل يحللون ويصرفون الخيبات دموعا وندما وآهات، ونظراتي الشاردة تائهة في لوحة سريالية تحتفي بجماجم لا يهمها الصواب في عالم يفرخ عمدا تأويلات الحيرة وشكوك التعتيم وخلط الأوراق.
مر بجانبي طيف امرأة، حملقت ــ واعرة هاذ حملقت ــ في وجهها، تجاعيد بالجملة، كحل أسود بعثر الرموش، زرقة تميل إلى الرماد تحيط بالعينين، التقت عيوننا، ابتسمت لي، ودخلت المرحاض بسرعة.
خرج الطيف بجلبابه الأحمر الفاضح، ركز النظر في وجهي، ودون مقدمات، صدمتني الأربعينية قائلة :» خلص على أختك شي بيرة وخليني نونسك! «، كدت أنفجر ضحكا، كتمت ما بي بصعوبة، اعطيتها قنينة وقلت: « تفضلي يا أختي هذه هدية مني إليك وغ سيري في حالك الله يسهل علينا وعليك! «
رأيت صاحب جاكيطة جلدية سوداء يشير إلي وسط الزحمة، رفع خنصره الأيسر علامة تأييد، ابتسمت له ، بادلته نفس الإشارة، توجه نحوي حاملا بيمناه جعة من صنع جرماني، جر كرسيا من فوضى السكارى، جلس أمامي دون إذن، وقال:
ــ أعجبني تصرفك مع ذيك خيتنا باينة فيك براني.
ــ الصدفة هي اللي جابتني هنا عل وعسى أنسى وأرتاح.
ــ يا صاحبي.. الحي في هذا البلد السعيد لا يرتاح.

دخلني جانبا، عرفت أن الحوار لن ينتهي عند هذا الحد، تصنعت الشرود، اشتهيت عزلتي، استنجدت بصمتي حتى يفهم رأسه، ويتركني أنال راحة البال.. عكس ذلك، خمنت أن البيرة النصرانية سلبت منه فطنة فهم المقام، وزاد في السؤال:
ــ وشنو جابك لهذه الخربة المسوسة؟
ــ صدفة المكتوب، جئت أبحث عن الحقيقة .
ــ حقيقة ماذا؟! أنت مجنون، عولت على الخلاء الخالي.

ابتسمت ابتسامة معلول مقتنع باستحالة العلاج، ممكن.. قلت وأضفت.. قد أكون عولت على الخواء، لكني عرفت أن الذي وقع آلم نفسي ووشم بدواخلي جرحا يصعب أن يندمل، وحين يستغرقني الصمت المتواطئ وحياد الجماجم المظلمة يكبر في خاطري سؤال الحقيقة وداويني بالتي لم تكن هي الداء.
ظهرت على ملامحه علامات عسر الفهم، لم أبال، أوغلت في الهروب من لغط الحانة، والسؤال عن ماهية الحقيقة المغيبة يدعم بحثي عن حقيقة ما كان من خيانات وتعذيب واختطافات.
تهيأ لي أني سمعت صوت الحبيبة، استحالت الزحمة وملامح السكارى سوادا قاتما، اعتقدت أن العالم يهتم باعترافاتي، وواصلت الكلام رغم قوة النقاشات العبثية وقهقهات الدوخة المشاع.
وفي طريقي إليها، ذقت لذة الحب، استغرقني الحلم، عثرت على مدافن سرية وقبور مجهولة الشواهد، هنا وهناك، قيل لي، لفظ الشهيد أنفاسه، اختنقت أحلامه، وعبروا فوق جسده الطاهر نحو كوابيسهم المتلاحقة.
قصفوني بأغاني زيد سربي يا مول البار وتيك تيك تيلي بوتيك وما بغات تصبن ما بغات تعجن ومقابلة غ العفن، كبر الحصار، خرجت علينا طائفة كنا نراها من فئة الصادقين، باعت الوهم، وفازت بدنانير شيطانية ومناصب وڤيلات.
تهاوت أمامي جثة سكران، استعادتني زحمة الحانة، فرملت انسياب الشهادة، ناديت النادل، أديت واجب القنينات، هممت بالانصراف، أوقفني صاحب دعوتي، وقال:
ــ زيد معنا راه باقي الوقت!
ــ يكفي، هذا جهد اللي تابعاه الطريق
ــ غ اجلس أصاحبي الليل ما زال طويل!
ــ سأطلب قهوة سوداء وأنتظر صلاة الفجر

انفجرت ضحكته قوية غريبة، كاد يسقط من الضحك، أدمعت عيناه، فاجأني بكلام متقطع، قال:
ــ شوف أصاحبي غ بلا ما تبحث عليها، أنت هو الحقيقة!


الكاتب : حسن برما

  

بتاريخ : 26/08/2022