قصة قصيرة : حشرجاتُ مَنفِيٍّ

 

1 – رؤيا احتضار
ـ أصبحت أملك طوع يدي جميع ما كنت أرغب فيه،، وكل الذي كان، وما لا يزال يثيرني، هي وأشياء أخرى، كل ذلك في متناولي، إلا أنني أحس أن جسدي هذا المتهاوي الفاني لم يعد كما كان، بل إن نفسي أصبحت تنفر حتى من مجرد الإطلال على ضوء نهار، بل حتى من مجرد الخروج من قوقعتي داخل هذا البيت، خشية أن تتعرض عينيَّ الاثنتين معًا إلى ضربة ضوء، مهما احتميت بأستار ظلال تحت ما أحمله من ثياب تغطيني من قمة رأسي حتى أخمص قدمي.
فأخطر ما يواجهني، بل أخوف ما يتهددني أن نفسي لم تعد ترغب في قليل أو كثير، وكأن صوتا ما يهمس لي بأن هذا ليس إلا استعدادًا لشكل من أشكال الموت، أو تمهيدًا لحالة من أحواله، أو شروعا في موت كليٍّ، معه سأغض الظرف عن الدنيا أول الأم، انتهاءً بصرف كل حواسي عن أي متعة من أي نوع كانت.
فها أنذا بلغتُ في ما أرى إلى ما كان يتمناه القائل الذي هفا إلى أن يكون حجرًا يَمُرُّ به ما يفتن الناس فلا ينال ذلك منه، أو يضيف إليه شيئًا.
أجل، لقد بلغتُ مرحلة الانصراف عن كل ما في يد الآخرين، من نِعَمِ الجسد أو مُتَع الروح، أو نيل ما يغيظهم من ثراء لا يستطيعون الوصول إليه. فلقد شارفت الموت إذن ، وماذا إن لم تكن حالتي هذه هي الموت نفسه….
لكنني ما إن أحسستُ بماء ينتشر على وجهي وجزءٍ من رأسي … ورأيتُ يدين تعرضان عليّ تناول ما في كأس من ماء تدنيانه من يباس مخيف علا شفتيّ، لِتَنساب قطراتٌ منه إلى جوفي عبر جفاف تمكن من حلقي ومريء قفصي الصدري، حتى استعدتُ بعْضَ وعيي، فاستفقتُ وأنا أسمع مَنْ حولي يتداولون، بين همس وجهر، حديثا كله يعنيني:
ـ المسكين …ما زال لم يبلغ من العمر عتيًّا.
وليردد صوتٌ آخَرُ في نبرة أعلى:
ـ يحسب الشيوخ أنهم يكرهون بقدر ما يبدونه من حرص، أما إذا تخلوا عن رغباتهم فلن يضيق بهم من حولهم.
ليُضيف الصوت الأول:
ـ يظن الشيخ نفسه ضيفًا ثقيلًا.
ففتحتُ عيني لأرى وجه صاحب هذا الصوت:
ـ بل إنه لا أثقل من عبءِ مَن لا يُحِسُّ
فاصفرَّ لون صاحب الصوت الأول خجلا من أن تكون كلماتي رغم كونها تأتي سامعيها قبل الغرغرة بقليل ، تعنيه هو . كلماتي التي كنت أحشرجها وهي تتصاعد من فمي دون بخار ، إذ لم يعد في جسدي من دم يجري ولا ماء حياة.

2 – في البرزخ
حجرًا صلدًا أصبحتَ، لا تستطيع أن تشرب ماءً، ولا روحك تتمتعُ بصلاة، وعيناك أصبحتا محض زجاج، فلا أضواء تغريهما ولا بريق ساطع يجذبهما، ولا حبَّ جسد مما يتحرك أمامك يقوى على تحريك أضعف نبض في داخلك، لكن رغم كل شيء فلا يزال ما يندفع حولك من تيارات هواء يوحي لِمَن قد يراك، أكنت أنت ألذي لم تعد كائنا إلا كجماد يحدث أن يحس دون أن يعي، أم غيرك من كائنات لا إحساس لها، أنك توجد في هذا المكان أو هذه الحال، وكأن حياةً ما تبعث فيك، أو روحًا ما يزال أثر منها في ذاكرتك، وهل تقيم الروح في قلب صَخْـر؟ لولا وقع الماء و آثار هبوب الريح لظل وجهُه ثابتا باهتا لا يتغير بين غابر وحاضر، بلا لون ولا صوت إشارة، وهل تجيبك صخرة لا تسمعُ؟
تمر عليك أيام لا تبرح فيها مقامك، بل يبدو أنك ستسكن هنيهتك لا تنتقل منها إلى أخرى غيرها، في أعماق ليل كنتَ أم في رابعة نهار، لا تجتذبك حركة أو يتجول ذهنك في هذه المدينة الغول، ذهابًا وإيابًا، لا ترى أو تسمع أو تتكلم، أعمى أصم أبكم، لا يتذكر لسانك حِمْلَ لفظ تحرَّك به يومًا ولا يستميلك إيقاع فَـتَـن مسمعك مع رقصة أنغام بين حركات ألوان وسكنات أصوات، وإن جرى حولك ما يدعو إلى انفجار شهيق، أو إلى تدفق مدمع، لم تنس أنك صرتَ حجرًا ملمومًا لا يحركك ما يحدث خارجك أو في أعماق روحك التي مضت بها أيام وما عادت لك.
انتهى احتضاري منذ بعض وقت، حتى أنني لم أسمع نواحًا إن كان يوجد حولي من يبكون، ولا رأيتُ أحدًا يدبّ أو يهبّ في جنازتي، أو ممن سعى للذهاب بي إلى قبري، وسأنتظر قليلًا، وبعدها إذا لم يختف هذا الضوء الذي أعرف أن خطوات مشيعي نعشي لا تزال تتحرك في دائرته، فلن أضيق بوحدتي التي كلما اشتدَّت زادت سعادتي ، وزَيَّن فرحي لمن لا يزال يراني أن يبتعد عني ، وأن يخلي ما بين وبين هذا الفراغ العظيم الذي أصبح عنوان وجودي، وشارة إكليلي التي يفر منها ويستعيذ كل من يسترجع ذكراي في دنيا الآخرين.

3 – وعي النفي
تحت الشمس أو تحت الريح والمطر، لا أدرك شيئا مما يقع حولي أو على مرمى حجر مني أو من أيِّ جدَثٍ يواري غيري ، أو شاهدة تقوم هنا أو هناك تثبت من كان على هذه الأرض فيما مضى وغبر. فهل مِتُّ ودُفِنْتُ؟ واقتادني قدري إلى انتظار ما لا يجيء، إلى أن يتحقق ما لا نفع فيه. فقد تخلَّصت روحي من وِزْرِ زمن وأوهامه، وما أواجهه فيما يمضي ويمر ، وكل ما يخيف قبل أن يحلَّ، كما تخلص جسدي من انتظار ما يمتع من لذائذ الشهوات، أو ما يرهق من أثقال التبعات، فها أنذا في غيابة البرزخ وكأنني في متحف متلاشيات، لا أمل يعذبني، ولا انتظار يثقلني، للحظة أو لقرون من السنوات، وسأولي الزمن ظهري ضاحكا مستهزئا ، ما دمت أدركت أن ليْسَ ورائي ولا أمامي ما أتمناه، فإن لم تعد لي صفات الإنسان فكيف يقدر هالك أن يهتمّ بإنسان، بل إن وضعيتي كمنفيٍّ إلى خارج الحياة لا تدعو أي مقيم على وجه الأرض إلى استرجاع من صاروا منفيين مثلي تحتها، أو الاتصال بمن لا يزالون على أمل من اللحاق بهم إلى ما فوق الأرض.

4 – العودة
نحن لم نفْنَ بعد، كل ما في الأمر أن هناك مدنا منسية في البرزخ، أو في ما يشبه البرزخ، بل في طبقات جحيم ما قبل البرزخ، وأن إنسان أرض الحياة المخضرة، حيث الخصب والحب والعطاء والخير لا علم لكثير من أفراده ، بما ينشغل به لصوص جهات منظمة وعصابات مجيّشة، من تحويل آلام وإشعال حروب، وجعل كل ذلك مصادر أرباح وآليات امتصاص دماء، فكان أن افْتُتِحت في جهات في آخر الأرض، بساتين نِعَم ٍ وحدائق مُتَعٍ، جُعِلت ينابيع أرباح، وآبار استدرار ثروات.
ولقد كنتُ سمعتُ، ، قبل أن أدفن بقليل، وجود مهتمين بالاتصال بمن تتوهمه بعض الوكالات أنهم من سكان الفضاء الخارجي، في لعبة صرف الأنظار عما يَسلبُ الأرضَ مقدرات منفيين بالرغم عنهم عن ساحة حياة الإنسان، خلفَ أستارِ ظلماتٍ وظلماتٍ.

5 – الذهاب ثانيةً:
«ـ أأنا في برزخ أم في معبر جحيم على الأرض أم في مطهر؟
ـ بل أنت هنا، لم تغادر موقعك على الأرض، يومًا، ولقد صحوتَ الآن ، وستزداد إدراكاً لكل من لا يوفر حيلة أو قوة لإرغامك على النوم، فلقد عرفت طريق نهوضك.»
كانت أكثر من صفارة إنذار تقترب مني، فأنا أكتب شهادتي هذه منذ أيام على هاتف ذكي مسجل في دوائر استخباراتهم، قال لي مستخدم جهة البيع الذي سجله وأنا أرى:
ـ إن في هذا تأكيدا لحمايتك من أن تضيع أو تُسرق.
الآن أسمع طرقًا عنيفاً على باب إقامتي الحديدي أسفل العمارة ، و أسمع أن هناك من أسرع إلى فتحه ، لأسمع بعدها وقع أحذية عنيفة على الأدراج، لتنتهي بالطرق الشديد على باب بيتي الذي وقفت لأشهد كيف يتهاوى على الأرض وليدخل المهاجمون في جماعات مندفعين بحثا عن كاتب هذه الشهادة، وعن هاتفه الذكي، الذي لم يخطر لصاحبه أنه سيُستعمل شاهداً عليه.

6 – النفي
اقتادوني إلى جهة ما من منفاي المجهول، حيث لا قبلُ لوجودي ولا بعْدُ، ولا فوقُ ولا تحتُ، وما زلتُ لم ألْقَ الذي أتمناه، فهذا الذي أحسُّهّ فوق كل احتمال.


الكاتب : أحمد بنميمون

  

بتاريخ : 17/09/2021