حَدَّقَ عامل النظافة مليا في اللوحة.إنها لحظته المفضلة؛ يستمتع بشدة بالإعلان الملون المتربع بين الأرض والسماء كأنه وعد إلهي.
انتهى من جر مكنسته طولا وعرضا على جنبات الطريق.
الغبار قد استوطن منذ الصباح قبعته الباهتة التي تحمل شعار شركة النظافة، شعره، حاجبيه، وكل رقعة في جسمه النحيل.
تتوسط اللوحة تقاطع ثلاث شوارع فسيحة،وتنتصب فوق المدارة مثل علم قراصنة على جزيرة مجهولة.
كانت فوق العامل تماما، سحابة مبروكة يحتمى بظلها الوارف من شمس الظهيرة المحرقة.
مليار وخمسمائة مليون سنتيم، هذا هو المبلغ.
كتب أيضا بحروف بارزة وغاية في الأناقة.
بدأ للتو في صرف كنزه المستحق إن فاز.
نحو مائة مليون سوف يتخلص منها للتبرع والأعمال الخيرية للمقربين، رغم كرهه الشديد للبعض منهم، خصوصا بطانة النساء.
بصق بقوة وشتم ببذاءة.
تفو.
ابتسم وهو يرى نفسه يتربع كرسيا فخما على متن طائرة تحلق فوق المحيط.
-من فضلك سيدتي، بيرة باردة.
ستناوله المضيفة بيرة مثلجة شقراء تشبهها، وهي تكشر عن أسنانها بتصنع فاضح.
ينهر نفسه بشدة، لا سبب لأن يكون مؤدبا الآن.
عليه أن يتصرف مثل مسافر غني على متن درجة رجال الأعمال والمال.
ـ أحضري لي مقبلات.
تجاهل همسا مسترسلا يبعثه عقله الباطن.
ـأنت لم تركب طائرة قبلا، ولا حتى زرت مطارا صغيرا حقيرا…
ها هو سائقه الخاص يحييه ويفتح أمامه الباب الخلفي للسيارة بكل أدب.
التكييف داخل الليموزين نعمة ما بعدها نعمة، خصوصا أن طقس الجزيرة حيث يرى نفسه يقضي نهاية الأسبوع أو ربما ما تبقى من عمره إن راقت له، حار ومشمس.
بالمناسبة، سوف يشتري المنزل المتهالك والغرفة الضيقة التي يكتري فوق سطحه المتعفن، ثم سيأمر بدك كل ذاك القبح حتى يستوي مع الأرض.
سيكون من واجبه أن يمحو للأبد محنة ليالي الصيف القائظ داخل جهنم صغيرة بلا نوافذ وبسومة كراء شهرية كانت تلتهم نصف راتبه الهزيل.
سينفح خادم جناح الأوتيل خمس نجوم ورقة من فئة مائة دولار، ويستمتع بمشاهدته ينحني مرارا مثل مقاتل ساموراي في حضرة إمبراطور مهيب.
لا أحد ينحني أبدا لعامل نظافة يكنس الشوارع.
تَخَيَّلَ ملابسه الجديدة : اختار بنطلونا أبيضَ وقميصا برتقاليا عليه علامة تجارية يستحيل أن يلبسها الفقراء.
يفضل نعلا بسيطا وغالي الثمن.
خطر في باله سوق الملابس المستعملة.
عليه أن يفعل المستحيل لتفادي سقوط العلامات المشهورة بين يدي المعدومين.
عار أن يتساوى هندام ملياردير وفقير مذقع، مثل زميله بوشعيب سائق شاحنة جمع النفايات، على سبيل المثال لا الحصر.
زميله هذا بالذات : كم مرة نبش في سوق الخردة ليعثر على ملابس»ماركة» بورقة أو ورقتين نقديتين سخيفتين، كي يتفاخر بها مثل طاووس مغرور.
ابن الشحاذة.
قلة حياء وتطاول يثيران اشمئزازه هو وأقرانه من المليارديرات.
المسبح سيكون ماؤه أزرق، وجنباته أنيقة، لن توجد به أكثر من سيدة فاتنة واحدة، مُمَدَّدة على طرانزات أبيض، ستفصلها عنه أمتار معدودة.
كم يكره الاكتظاظ.
يود لو أن أمامه الآن المسبح البلدي بمياهه الرمادية، ورواده الكثر وكأنه بركة ضفادع. المتعة،كل المتعة، أن يتمكن من طرد الجميع خارجا، ومن الأفضل بشتائم تليق بمقامهم النتن.
كم يكره الفقراء.
أتعبه التفكير في المسبح البلدي ورواده المقهورين وتوابعهم، فتحول فورا إلى سائق سيارة رياضية فخمة.
ستكون بورش أو لمبورغيني، لأن الأغنياء الحقيقيين هكذا يفضلون السيارات.
طلاء أحمر، زمجرة أسد فوق أسفلت الطريق السيار، وصهيل فرس أصيلة إذا ما اضطرت للتوقف.
يرى سيارته الحمراء المذهلة تتجاوز سيارة عائلية ،تجلس حبيبته السابقة على يمين السائق.
تسرعت وتزوجت أخرق لا يملك سيارة حمراء فارهة، تزمجر، تصهل…
يتجاوز سيارة الأخرق و بجانبه الحبيبة السابقة المغفلة،ثم يطلق صوبهما تنبيها ببوق البورش.
بوق قوي يعلن القيامة.
يسمع البوق بوضوح وبنشوة المليارديرات، فتغمره سعادة عارمة.
ينتشي للمرة الأخيرة بملياره.
سيارة عابرة ترسله للضفة الأبدية بينما كان يعبر الطريق بعينين مغمضتين وذهن شارد يحلم بورقة اليانصيب الفائزة بالجائزة على لوحة الإعلانات الضخمة.
عامل النظافة المسمى قيد حياته رابح سقط على بعد أمتار من لوحة الإشهار، يحمل داخل جيب سروال العمل المهلهل ورقة يانصيب.
يحمل تذكرة أسبوعية نحو جنة أحلام اليقظة، اعتاد أن يقتنيها منذ سنوات.
منذ أن اكتشف أنه مُعْسِر،مُعْوز،ومفلس.
اكتشف أيضا أن ورقة يانصيب واحدة قد ترفعه إلى عالم الأغنياء المَيْسُورين،المُتْرَفين.
لن يُطْلَبَ منه سوى انتظار يوم السحب، أو يوم القيامة. لا فرق.
قصة قصيرة .. حظ رابح

الكاتب : عثمان ناجي
بتاريخ : 09/05/2025