أنا جيّد هنا. أتعايش مع حرارة الصيف بحميمية؛ أرتمي في المسبح الذي حفرته في خيالي فأشعر بانتعاش لذيذٍ، وأمدّ يدي إلى الأشجار فأقطف حبّات العنب وقلوب الإجاص. حرارة الصّيف لافحة هذا العام لدرجة لا تحتمل، خصوصًا بالنسبة للذين يتزاحمون في بيوتٍ ضيقة تنعدم فيها أبسط شروط الحياة، ومع ذلك يُشيعون سعادةً مغشوشة في الفيس بوك ويكابرون في صمت قاتل.
عمومًا، البؤساء يعانون في الصيف والشتاء والخريف والربيع، ورغم ذلك يتشبثون بالحياة ويركضون خلف المجهول. يا للتفاهة! أنا أيضًا انخرطتُ في هذه التفاهة منذ أعوام، بل أشعر بأنني أكبر تافهٍ في المدينة، عندما تألمتُ كثيرًا قبل أن أملك منزلًا مستقلا بأثاث رفيع، بصالونٍ يتسع لضيوف حقيقيين وآخرين افتراضيين، وبتلفاز ملوّن كبير وثلاجة تسع لتبريد أعصابي السّاخنة، وطاولة الليل أسهر حولها أنا وأفكاري رأسًا لرأس. أمّا غرفة النّوم، فما عدت أدخل إليها منذ أن غادرت زوجتي البيت إلى وجهة مجهولة بعدما قالت كلامًا كثيرًا ملخّصه أنّها لم تعد تطيق العيش معي، وأنها لا تحبني، ولستُ فارس أحلامها ولا حمارًا في هذا الشأن. المهم غادرت السيدةُ المكانَ وظلت الغرفة مغلقة على أسرارها.
بالرغم من كلّ هذا، إنّني جيد كما قلتُ لكِ في البداية، خصوصًا حين أنهض في الصباح فأجد نفسي ممدّدًا فوق السرير مثل خنزير بري، مفردًا مثل كنبة متروكة عند مدخل فندق مهجور. وعندما أسوق السيّارة وأخرج يدي من النافذة وألوّح بيدي للأشباح والعابرين. وحين أغفو وقت الظهيرة في المقهى، وأتأخر في الخارج دون أن يسأل عنّي أحد.
لا، لا.. أنا أكذب. لستُ سعيدًا بالمرّة، بل ساءت أموري الشخصية على نحو فظيع وحطّ الغراب فوق رأسي، فغدوتُ أسير أفكار سيئة. ونادرًا ما ألتهم الطعام بشهية. صرتُ عصبيًا لأتفه الأسباب؛ البارحة رشقتُ أحدهم بحبّات البصل في سوق الخضر بعدما أن حاول المزاح معي. وهل يتمازح الناس في التاسعة صباحًا؟ في الحقيقة نحن شعوب غريبة وغير مفهومة بالمرّة. أنا أيضًا صرتُ غريبًا عن نفسي حين أدخل دورة المياه فألهج بكلمات بلا نقط ولا فواصل أو حين أنخرط في حصّة من الضحك الهستيري. وعندما أضرب رأسي بالحائط ندمًا على أشياء كثيرة. نعم، الندم خصمي غير الشريف، ووجبتي اليومية المرّة.
صرتُ شخصًا لا يُطاق، خصوصًا بعدما ماتت ابنتي الوحيدة ذات السبعة عشر ربيعًا؛ لقد طعنها أحدهم بسكينٍ على ساحل البحر قبل ثلاث سنوات لا لسببٍ سوى أنها ترتدي تنورةً قصيرة وتقتحم الهواء بنهديها البارزين. يا للألم !وللفظاعة!لم أفهم كيف يفكر هؤلاء الذين أفسدوا كلّ شيء، بل أرادوا منّا أن نعود في الزمن إلى الجاهلية لنرعى الجمال، ونسكن في الخيام، وننكح النساء قسرًا، ونبيع أطفالنا في سوق النخاسة.
أتساءل مع نفسي؛ ماذا أفعل هنا وسط أناسٍ مستعدين لارتكاب الجريمة لأتفه الأسباب. أنتِ أيضًا كنتِ الضحيّة حين قبلتِ الزواج برجلٍ غريبٍ بمحفظة نقود متدلية على صدره. يا لحظك الأصفر! فتاة جميلة حاصلة على دبلوم متقدّم في الفيزياء تقبل العيش تحت سقف واحد مع رجل ترفل سيرته بجريمة كبيرة؛ لقد قتل أخته بعدما وجدها ترقص على إيقاع الموسيقى في صالون البيت.
وماذا بعد؟ أنتِ الآن خادمة محترمة في بيت الزوجيّة؛ تطبخين الخضر، ثمّ تغسلين الأواني من المرق اللاصق، وتكنسين الغبار عن الوسائد والملاءات، وتمنحين جسدك كل ليلة لرجلٍ مجرم. أهذا هو الحب الذي تحدّثنا عنه طويلًا في مقصف الجامعة، وفي ممرّات الحافلة ونحن عائدان إلى الحيّ الجامعي ببطون فارغة، وأفكارٍ برّاقة في الرأس لدرجة لامسنا الجبال بأصابعنا أكثر من مرّة، ورقصنا بحواجبنا دون أن نغادر الحافلة. بل سافرنا إلى مدنٍ بعيدة دون أن نشتري تذكرة أو نحلق في طائرة أو نبحر على ظهر سفينة؟
كنّا نتمشى حفاةً في دروب الخيال دون أن نتعب، ونتكلم لساعاتٍ دون أن نأتي على الخاتمة. أطوقك بذراعي فأشعر بوديان الخمر تجري تحت أقدامي. أقبّل عنق الغزال فيكاد يُغمى عليَّ وأستدعي سيارة الإسعاف. نتلاحم بأفكارنا فوق سريرٍ واحد في ليالي الشتاء الطويلة كزوجين حقيقيين. غير أنّك كسّرتِ جرّة الحبّ ذات صيفٍ بعيد، فاخترت السير في طريق المجهول مذعنةً لأصوات غريبة. كنتُ حينها جنوب فرنسا بلا سقف أعود إليه في المساء ولا مالٍ أتدبر به أموري الصغيرة، قبل أن أتدبّر عودتي إلى المغرب متسللًا في القطار لألتحق رأسًا بإحدى قرى الشمال حيث مدرسة بلا باب ولا نوافذ، وحيث أطفال بملامح مضطربة ينتظرون وصولي.
لستِ الوحيدة من فعلها، فالكثير من البنات يُسَقن إلى بيوت الزوجية كما تُساق النعاج إلى المسالخ. لا تهتمي، أنا أيضًا طويتُ حياتي الماضية تحت إبطي كما يطوي الكشّاف خيمته الصغيرة. فعلتُ ذلك من دون أدنى مشكلة. المشكلة توجد فقط في رأس الإنسان. أمّا الحياة فهي جميلة ورومانسية على شاكلة الأفلام الهندية في التسعينيات. وحده الإنسان يضع المتاريس وأكياس الرمل وأحجار الحواجز أمامه ويريد أن ينطلق.
نعم، لقد أفسدوا حياتنا جميعًا منذ البداية، منذ سنوات الابتدائي حيث عصا المعلمين وجبروت المدير أمام البوابة، وتسلط طبّاخ المطعم المدرسي الذي يمدّ لنا بيدٍ كسرة خبز محشوة بملعقة مسحوق المشمش الفاسد، وباليد الأخرى صفعة على الوجه إذا استدعى الأمر ذلك. منذ أيّام السينما وضرورة المرور، بعد انتهاء الفيلم، بمخفر الشرطة بتهمة التأخر في الخارج. لكن لا أحد تساءل يومًا لماذا تأخّر الوطن؟ وأيضًا منذ أصياف بعيدة عندما اخترتُ الاشتغال في أوراش البناء ومعامل الزليج جنب الكبار الذين يتقاتلون في ما بينهم بلا سبب واضح، فيما تنمو الرأسمالية بفضل أجسادهم المتعبة. من حُسن حظ الرأسمالية أنها تجد دائمًا من يدافع عنها. ولا أدري كيف نجوتُ بنفسي من وسط هؤلاء البؤساء.
كان علينا أن نتدبّر حياتنا الخاصة منذ البداية ونحرص عليها؛ بقليل من الجهد منك مثلًا، وبقليل من الشّجاعة منّي أيضًا. كنّا سنكون الآن جنبًا لجنب. وسأوفّر على نفسي كتابة هذه الرسالة؛ هذه القصة القصيرة.
قصة قصيرة .. رسالة
الكاتب : حسن بولهويشات
بتاريخ : 12/07/2024