أفتحُ دليلَ تلفون قديماً ، يعودُ إلى منتصف القرن السابق ، وأختارُ منهُ ، بطريقةٍ اعتباطيّةٍ ، اسماً ولقباً لشخصٍ لا تربطني به أيّة علاقة ، يُدعى عبد القادر السُوسي .
ثمَّ أفتحُ ، بعد ذلك ، مطويَّةَ خريطةٍ ورقيّة عتيقة، تنتمي تقريبا إلى نفس الحِقبة الزمنيّة ؛ و أنتقي منها ، على نحو عشوائيّ ، بلدةً مغربيّة لم يسبق لي أن زرتُها ، تُسَمَّى «مْسْكَالَة» ، تقعُ ضواحي إقليم مدينة الصويرة .
يغدو عبد القادر السُوسي هذا بَهْلَوَانِيّاً رِياضيّاً نحيفاً ، في العقد السابع من عمره ، فوق سلك معدنيّ مشدود بين دِعَامتين حديديَّتين ، ترتفعان عن الأرض بحوالي متر و نصف ، يسندهما من إحدى الجهات حجر صلب كـ «الصخرة « الصَمَّاء .
و بفعلِ فضائلِ تَوازِي العوالمِ المُتكرِّرة ، يصبحُ ذاكَ السوق الأسبوعيّ المُغبَّر لبلدة «مْسْكَالَة «بمثابة الفضاء المفتوح «على الطريق» من جهتين ؛ حيثُ سيقدِّمُ المدعو عبد القادر السُوسي عرضهُ الفرجويّ أمام حشدٍ غفير من القرويّين البسطاء ، المُلوَّثين برتابة اليوميّ و وَحْلِ الفقر .
أتيتُ ، قبل حينٍ ، على تنضيد كلمة « الصخرة « داخل نسيج الحكي المُركَّب من استدعاءاتٍ قادرةٍ بذاتها على تعديلِ تفاصيلها ؛ لكونها عنوان قصيدة مُتطايرةِ الشُهرة للشاعر « ميخائيل ليرمنتوف « ؛ ومن وَحيها – حسب تخريجات بعض نُقَّاد الأدب الرومانتيكيّ و مفسّريه – كتبَ الأديب « أنطون تشيخوف « قصته المعروفة «على الطريق»؛ و بإلهامٍ منهما معاً – أي من خيمياء القصيدة و القصة – وضعَ الموسيقار « سيرجي رحمانينوف « قطعته الأوركستراليّة طنَّانة الصِّيت « الصخرة «.
إذنْ ، لتكنْ حركاتُ شخصيّة عبد القادر السُوسي الجمبازيّة على هُدَى الشعر و القصة والموسيقى ، المُعانِدِة جَمِيعاً لأيّة نزعةٍ رومانتيكيّة .
لتكنْ تلاقيا فاسداً بين وحدانيّة راقصِ السلك المعدنيّ، و هرج الزِّحام الأخرق ؛ اجتماعاً ركيكاً بين غيمة ليليّة مُترحِّلة، وسريرِ صخرةٍ حانيَّة مُقيمة ؛ تضامًّا متلاشيّاً بين رجُلٍ منقطعٍ عن الدنيا ، و امرأة منصرفة إلى أوهام الحياة ؛ ألفةً مضمحلةً بين ترنيمات هادئة، و أنغام هادرة .
لتكنْ حركاتُ البهلوانيّ عبد القادر السُوسي أوركسترا جُرح السويداء الرقيق ؛ ذَاكَ الذي يحاول المرءُ العاجز أن يرتقهُ بخيوط الخِفَّةِ ..خِفَّةِ الجسد ، و خَفَّةِ الرُوح ..عذُوبة الطفل الجَوَّانيّ الذي كَانَ ، ووِزْرِ هاويةِ الغيابِ فاغرةِ الشِّدقينِ.
نحنُ الآنَ ، تحديداً ، في يوم أَحَدٍ ؛ يوم أحدٍ مُعادٍ أكثر َمن مرَّة، على شاكلة زمنٍ مستديرٍ ، كأنَّهُ حلقات كوكب زُحل ، أو متاهة قدّت من حجر ، يرجعُ دوما من حيث انطلق ، إذ ليسَ في ذاكرةِ دائرةِ المتاهة نقطةُ بدايةٍ ، أو بارقةُ خاتمةٍ ؛ ما حَدَثَ سيحدثُ مِراراً كثيرةً إلى ما لانهاية ؛ لكون الزَّمان يعيدُ اختلاقَ الوقائعِ ؛ و لأنَّ مصيرَ رجلٍ واحدٍ مُعوز عاشَ وماتَ بوصفه بهلوانيّاً لاَ غَير هُوَ ، في الواقع ، مصيرُ كلِّ الوَرَى في عُرْفِ عجلة الوُجود الدَوَّارة كماكينة مجنونةٍ للمحق والمحو ..
و هَا هُوَ ذَا عبد القادر السُوسي يشرعُ في المشي بقدمين عاريتين فوق السلك المُتصلّب الممدود بين طرفي الرَكِيزتين الدَعَامَتَيْنِ ، تمهيداً للجولة الأولى من حِصَّته الأكروباتيّة لركوب الهواء .
يكادُ أن يسقط ، أو لعلَّهُ اصطنعَ ذلك لبواعث ترتبط بإضرام نار الفُرجة. يستعينُ بالوالدين ، ﺑ «رجالِ البلاد «، بالشُرفاء .. بالأولياءِ الصَّالحين .. بالنَّبيّ العدنان..بمولاي عبد القادر الجيلاني . يمضي قُدُما و بتمهّل، كإيقاع «ديكرشندو « ، ثمَّ يترنَّحُ مُتهاديّاً قليلا إلى الوراء ، تماماً كَمَنْ يُوشك على الوقوع ؛ غير أنَّهُ سُرعان ما يرتكنُ إلى عصا توازنٍ يُمسكها بجُماع قبضتيه من الوسط ، فيعودُ في غمضةِ عينٍ إلى ثَبَاتِ سَاقَيْهِ.
يُخاطبُ نفسهُ بصوتٍ عالٍ : « احترسْ، أيُّهَا السُوسي الأشيب من الوُقوع». يأخذُ في العَدِّ تِبَاعاً : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، أربعة، خمسة ، وهو يخطو بمهارة فوق السلك المعدنيّ ، ذهاباً و مَآباً ، إلى أن يكبح جماح قدميه على نحو مُباغت، ثمَّ يصرخ ؛ « هَا هِي ذِي الفَراملْ «.
فتجلجلُ بعدها الحلقة ، التي صارت مُكتظَّة كخليّة نحلٍ ، بالتصفيق . يُنوِّهون قاطبة بأدائه، وهم يردِّدون عبارة « تبارك الله عليك يا إِيمازِيغْن» ، فيردُّ عليهم بابتسامةٍ مُجعَّدة تخرج من فمه مُحْتَثِّ الأسنان ؛ « الله يبارك فيكم» .
بنفسِ عصا التَّوازن ، يباشرُ السُوسي جولة ثانيّة من السعي فوق الكابل المعدنيّ المفتُول. هذه المرّة ، برجلٍ واحدة . يرفعُ العصا فوق هامته ، ثمَّ يستهلُ تدويرها ، مثل مروحةِ حوَّامة جويّة. يلفُّها سبع مرّات، كأنّها سبعُ سماوات ، أو سبعة أبواب ، أو سبعة ألوان، أو سبع موْجات، أو سبع أفاعٍ ، أو سبعة أرواح، أو سبعة أيامٍ لمولُودٍ جديد ، أو سبعة صلحاء للتبرُّك بآثارِ المخلوقِ و عجائبِ الأراجيف ؛ ثمَّ يتضرَّعُ للحضور من أجل مُواصلة تشجيعه .
ينتقلُ إلى الرِجل الثانيّة، و يعيد لفَّاته السبع، وهو يُشَافِهُ جمهور الحلقة المُتحمِّس مُتحدِّيّاً إيّاهم قاطبةً ؛ « أقسم بالله العليّ القدير أنَّ لا أحد منكم يستطيع الاتيان بمثل صنيعي، إذا لم يكن يملك ركبتين من « إينوكس»، أو خصيّتين من نُحاس» . تتواترُ بشاشة الحلقة و حبورها ، فيُقعي السُوسي فوق السلك، مُحوِّلا ساقيه إلى ما يُماثل كَمَّاشَتَيْ سلطعون ، مُتماديّاً في تدوير عصا التَّوازن.
يَسترضي روَّاد الحلقة لتحفيزِ حَذَاقَتِهِ بالتصفيق، ثمَّ يُحاورهم قائلا ؛ « هل تحسبونَ أنّني أتيتُ هنا لأنام مِلْءَ جفنيَّ ..إنَّها الفُرجة التي لن تجدها في أيّ مكان يا مُحَمَّااْاْاْاْاْاْاْدْ « ، ثمّ يردف هازئا ؛ «الواحد منكم فوق «السّْدَّارِي»، و يتزحلقُ إلى الأسفل، فما بالك وهو فوق سلك «، يكرِّرُ جملة «فوق السلك»، التي تعني للمغاربة بحبوحة العيش، و سعة الرزق، و كثرة النكاح، و التبطُّل عن العمل، فتُدوِّي الحلقة ، كرَّة أخرى ، بقهقهات شديدة مُترادفة، كأصواتِ مجموعةٍ من الطيور الجارحة فوق شجرة عملاقة ، أغصانُها من أطراف البشر الهائجة ، و أفواهِهم الزاعقة ، و عيونِهم الباسمة.
يُدشِّنُ السُوسي جولتهُ الثالثة ، وهو راقدٌ على ظهره فوق السلك ، و قد أَوْتَدَ بدنهُ بواسطة إحدى ساقيه المطويّة ، كما لو أنَّها مِخْطَافٌ قابضٌ . يُرسي عصا التَّوازن فوق بطنه ، مُمسكاً إيّاها بكلتي يديه المهزولتين المجعَّدتين، اللّتين لم يُعاملهما الزَّمن كجنتلمان. وبينما هو على هاته الحال من التركيز البالغ ، لم يفته أن يرسل بعض أمواس كلامه الغامز إلى زُمرةِ مِمَنْ لا يستسيغُ حضورهم البارد إلى حلقته الحاشدة ؛ « ثمَّةَ من يواظب على القُدوم كلَّ يوم أحدٍ، على أمل أن يَراني أسقط. لكن ، هَيْهَات. ليهدكم الله أيّها المغاربة الأحرار ، توقَّفوا عن «تقطير الشًّمع» على بعضكم البعض ، توقَّفوا عن الحفر لبعضكم البعض، مثل العقارب السَّامة» .
و بَعْدَ ما أدلى به، همسَ رَجُلاَنِ ملتحيَّان لبعضهما من معشر الحلقة بما يفيد أنَّ هذا « الإِيخَانْ « – والعياذ بالله – قد ركبهُ الشيطان ، فَهُوَ يستعينُ بألفاظ شِرْكِيَّةٍ ، و يأتي أفعال السَحرة و المُشعوذين، و يُآخي الجنَّ الأزرق .
عقبها ، ألقى عبد القادر بعصا التَّوازن إلى الأرض ، ثمَّ أفردَ يديه ، كما لو كانَ عُصفوراً مقلُوباً على ظهره ، و مضى يزحفُ و يزحفُ و يزحفُ في اتجاه الطرف الأول للسلك، مُنكبّاً بجذعه كلّه نحو الأمام ..واحد، اثنان ، ثلاثة ، أربعة، خمسة، في ما يشبه وتيرة « أكشليراندو « المتدرّجة شيئا فشيئا ، يا الوالدين، هيا «رجال البلاد» ، يا الشرفاء ، يا الأولياء الصالحين ، يا النبي العدنان، يا مولاي عبد القادر الجيلاني، آ المخزن، أيا «الجادارمية»..
قبلَ أن يرتفعَ برشاقةٍ مُتناهيّة، قافزاً مُتشقلباً إلى الخلف في حركات عكسيّة مُتتاليّة كان يأملُ أن تقودَه نحو الطرف الآخر.. واحد ، اثنان ، ثلاثة ، أربعة ، في تصَاعد قدير ﻟ « كريشندو « الجسد المندفع بأقصى وُسعه، ثمَّ شَقْلَبَةٌ أخيرةٌ خاطئة في الفراغ الغادر ، ليرتطمَ رأسهُ الأملطُ ﺑ «الصخرة»، و من الضفتين «على الطريق» تَوَافَدَ الخَلْقُ ، من كلِّ حَدَبٍ وصَوْبٍ، لرؤيَّةِ جُمجمته المُهشَّمة ..وكنتُ وَاحِداً مِنْ بَيْنِهِمْ .
(*)نص من كتاب قصصي جديد ، صدر حديثا عن دار خطوط وظلال الأردنية ، تحت عنوان : « مَارِسْتَانُ الْأَقْنِعَة».