قصة قصيرة … زائر غريب

كانت الحانة شبه فارغة في هذه الليلة، إلا من بعض المداومين الذين كانوا يجلسون على طاولات متفرقة، يرشفون كؤوسهم تحت الضوء الخافت، وعلى طاولة قرب الكونتوار يجلس رجل بمظهره المحزن، وحيدا أمام زجاجة جعة بينما يسند عكازتين على كرسي، من خلال كتفيه العريضين وهيأته يبدو أن جسده المنهار كان على قدر غير قليل من القوة، لكنه الآن صار كتلة متهالكة داخل معطفه الأسود، تتحرك بالكاد، ولا تقوى حتى على السير، جميع زبناء البار كانوا يعرفون عصام، الملقب بستارسكي، نسبة الى محقق بوليسي في أحد المسلسلات الأمريكية، فهو من المداومين على الحضور، بحكم مقر سكناه القريب، يعرفون عنه أنه كان صاحب مزاج عنيف يتحاشى كل من يعرفه الاحتكاك به أو إثارة غضبه، مع أن لا أحد كان يعرف شيئا عما أصابه، ليتحول إلى شخص شبه معاق الحركة، يجلس وحيدا بعيدا عن الضوء، يسكر في صمت.

الزائر الغريب
انفتح باب الحانة ودخل رجل بوجه غير مألوف، يمشي بخطى ثابتة وهو يتفرس في وجوه الحاضرين، ملقيا تحية السلام ليستقر في كرسي على حافة الكونتوار، وبصوت قوي ومسموع بادر بطلب كأس ويسكي مزدوج، وبمشاريب لكل الحاضرين على حسابه، البارمان لم يصدقه في البداية، حتى أخرج من جيبه حزمة من الأوراق البنكية استل منها بضع ورقات ورمى بها إليه، ثم حمل كأسه وتوجه رأسا الى الطاولة المنعزلة حيث يقبع عصام.
هل يمكنني مشاركتك هذه الطاولة؟
عصام بعد فترة تفكير هز رأسه دون حماس، وقال: «اجلس إن شئت فقد اقترب موعد عودتي للبيت».
وهو يجر الكرسي قال الزائر:
– هل هكذا تستقبلون الأصدقاء؟
+ مرحبا بك، ولو hن الفرصة لم تتح لي سابقا للتعرف عليك
– لقد نسيتني بكل هذه السرعة؟
وهو يصوب نظراته الثاقبة، إلى ملامح مخاطبه، لعله يكتشف من خلالها وجها له به سابق معرفة، قال عصام: «أرجو المعذرة فأنا لا أتذكر شيئا عنك ولا أعرف من تكون.»
– «لا مشكلة، مادمت أنا أتذكرك جيدا، لكنك لم تكن على هذا الشكل، ماذا وقع لك؟ هل هي حادثة سير؟»
هز عصام رأسه بالنفي متحرجا ومحاولا yقفال الموضوع.
« ليست حادثة سير؟»
الزائر لم يمهله ورد عليه: « يبدو أنك سقطت من مكان مرتفع أو أن ذلك كان نتيجة شجار؟»
+ «لا هذه ولا تلك « رد عصام.
الزائر ينادي النادل ليحضر كأسا أخرى على حسابه لعصام، ثم يلتفت إليه ويسأله « قل لي بالله عليك ماذا وقع لك؟»
+ «لا تقلب علي المواجع أرجوك.»
– « معذرة قد كان فضولا مني لمجرد الرغبة في تجاذب أطراف الحديث مع بعض، وليتخفف كل واحد منا، من بعض ما يثقل على نفسه، فالمصائب تصيب الجميع ولا تسثني أحدا.»
بعد دقيقة صمت، قال عصام يخاطبه: «لقد كنت ضحية اعتداء جبان، ابن الحرام، كان يترصد لي بالليل في أحد الأزقة حيث اعتدت المرور، لم أدر بنفسي إلا وعصا البيزبول التي كان يحمل تنهال علي بوحشية وبعنف شديد، حتى طرحني أرضا مغمى علي، لم أستيقظ الا وأنا في المستشفى وكل عظام ساقي وبعد أضلاعي مهشمة …. لم أتمكن حتى من التعرف عليه، فقد كان المكان مظلما وعدو الله، كان يضع على وجهه لثاما.»
وماذا كان رد فعل الشرطة، فأنا أعرف أنك كنت على علاقة جيدة بهم؟
+ لم يفعلوا شيئا، غير المواساة، المواساة فقط، بعد كل الخدمات التي قدمت لهم، تم حفظ القضية وتسجيلها ضد مجهول. مع الاستغناء عني وأنا في هذه الحالة … لم يعد أحد يسأل عني، حتى زوجتي هجرتني إلى بيت والديها وسجلت ضدي دعوى للتطليق، لا أمان في الدنيا لأحد.
– نعم ولكن أنا أعرف أنك كنت من أشد المخبرين نشاطا، وممن كانت قوتهم البدنية تمكنهم من مساعدة الشرطة أثناء إلقاء القبض على المبحوث عنهم … لماذا اخترت أن تكون مخبرا عوض الانخراط مباشرة في سلك الشرطة، أو البحث عن عمل شريف مثلا؟
+ تلك قصة أخرى، فقد بدأت معي أحلام العمل كمفتش تحري في البوليس، منذ الطفولة لكنني لم أتوفق في كل مباريات الولوج التي خسرتها جميعا.
الزائر يلتفت الى النادل ليجلب لهما كأسين، على حسابه دائما.
– ولكنك عشت الحياة بالطول والعرض، قبل هذا المصاب، كان عملك كمخبر يمنحك العديد من الامتيازات، وكان الجميع يخافك، وكنت تحصل على كل ماتريد بالقوة، كنت تعتدي على من تريد، وتلفق التهم بالوشايات الكاذبة لمن تشاء، حتى الشكايات التي كان يسجلها الضحايا ضدك لم يكن مصيرها سوى الحفظ لانعدام الدليل، فلا أحد كان يجرؤ على أن يشهد ضدك.
عصام لم يعد يبدو عليه الارتياح، وخاطب الزائر: «كفاك من أخبرك بكل هذه الأمور، وماذا تريد مني، ومن أنت أولا ؟»
+ «منذ البداية أخبرتك أنني أعرفك، اعتبرني صديقا جاء ليساعدك على الاجابة عن بعض الاسئلة التي تعذبك … على سبيل المثال، أنا مستعد لأخبرك بهوية الشخص الذي اعتدى عليك، ضمن أمور أخرى.»
بعد الشعور بالضيق الذي انتابه، بدا بعض الانفراج على أسارير وجه عصام، فقد صار قريبا من جواب طالما انتظره، وقال متسائلا : « قل لي هل تعرفه حقا؟».
– «نعم أعرفه، هل تتذكر سهام تلك الصبية الجميلة التي صدت كل محاولاتك، وانتهيت بأن اختطفتها بمساعدة شخصين في الطريق، واغتصبتها قبل أن تحتجزها مدة في أحد البيوت، حيث لهوت بها أنت وصديقيك، وبعد أن التقطت لها صورا وهي عارية لتضمن صمتها، عن طريق التهديد، رميت بها الى الشارع، لكنها لم تسكت وفضحتك … سيد عصام أنت تعجبني بذكائك الشديد، حين قلبت عليها الطاولة وشوهت سمعتها بالادعاء أنها عاهرة كانت تبيع جسدها لك ولغيرك.»
+ «نعم لقد كانت كذلك»، قال عصام.
– «لا تكذب علي، أنا أعرف كل شيء، وكن صادقا معي دون مراوغة، وأنا أعدك بالكشف عن هوية المعتدي عليك بالمقابل، وهل تتذكر أخاها نجيب كيف مسحت به الأرض حين انتفض في وجهك دفاعا عن شرفه الذي مرغته في الوحل، وكل من بالحي كان يشاهدك تعتدي عليه وتدميه، دون أن يجرؤ أحد على التدخل … أنا شخصيا معجب بالقوة التي كانت لك.
أطرق عصام برأسه أرضا في شبه اعتراف، وسأل الزائر: « وهل يكون نجيب هذا، من اعتدى علي؟ لا أعتقد فإنه لم يكن بالقوة والجرأة الكافيتين للقيام بهذا الفعل.»
– أكيد ليس هو، فبعد انتحار أخته نتيجة ما وقع، رحل وأهله الى مدينة أخرى.
+ «ولكن من يكون؟ أخبرني أرجوك؟»
– «لا تتعجل، سوف أخبرك بعد أن أفرغ هذه الكأس، إذا سمحت لي بمرافقتك، فإن الوقت جد متأخر.»
في الطريق كانا يمشيان جنبا الى جنب مثل صديقين، وعصام يتحرك بصعوبة على عكازتيه، متوسلا مرافقه أن يفصح له عن اسم من اعتدى عليه.
بقيا صامتين وبعد مدة وجدا نفسيهما في الشارع وجها لوجه وقال الزائر «هنا سنفترق يا صاحبي كل الى وجهته».
– «هل تريد أن تعرف هوية المعتدي عليك؟ إنه أنا، أنا هو من حولك الى الحالة التي أنت عليها الآن» … لست نادما فما فعلته بك كان بالنسبة لي عين العدل والصواب»
اندهش عصام وأصابته رجفة، وكان وقع هذا التصريح بمثابة ضربة قاضية، وسأل محدثه « ولماذا، ما الذي فعلته بك لأستحق منك أن تكسر جسدي وتهدم حياتي؟
أعاد عليه الزائر سؤاله الأول:
– «هل تتذكر سهام؟
– «قلت لك أتذكرها»، قالها عصام بغضب
فأجابه مخاطبه:
– « سهام تلك، كانت حبيبتي وكنا مخطوبين نستعد لإقامة العرس، لكنك، هدمت حياتي بفعلتك تلك».
+ ولماذا لم تقتلني وتنهي حياتي عوض ما فعلت؟
الزائر وهو يغادر، بعد أن ابتعد بضعة أمتار، التفت الى عصام، وخاطبه بصوت مرتفع:
-»لأنني وكل ضحاياك جميعا، نريد أن نتمتع في كل لحظة برؤيتك على هذه الصورة».


الكاتب : سعيد الحبشي

  

بتاريخ : 03/02/2022