قصة قصيرة : شامة ووادي العشار

من خلف أكمة صغيرة، وعلى حافة وادي العشار الكبير، كان ابن الهيثم يشد الرباط بالخيط الأبيض بين تلك الأشجار المنتشرة على ضفاف أثيلة، مسيجة بأحجار كلسية لامعة تأسر النظر. كانت زوجته شامة تنظر إليه باهتمام كبير، فكلما حان وقت العد والقياس البصري، تهرول في لباسها المسدول ، نازلة صواعد ناتئة، كي يجدها أمامه منتصبة كصفصافة تنحني للريح .
ـ خذي يا شامة الخيط الملفوف، وعدي الخطى نحو الجدار المهترئ .
كان ابن الهيثم قد غالبته الشيخوخة الظالمة، وزحفت على ما تبقى من وجهه المكتنز. مرفوع الصدغين، تتوسطه شروخ كعلامات نصر آت. أسند ابن الهيثم عينا وأغلق أخرى على صفيح الخيط الأبيض الملفوف، منتبها لرجع الصدى الذي يتذبذب ويتدفق، كماء رقراق، بين أنامله وأنامل شامة العجراء.
سألها بصوت متهدج خالطه مكاء وصفير في الهواء
ـ هل تتحسسين الصوت والصدى يا شامة ؟
أجابته هي الأخرى بصوت متقطع، وأردفته بحركات رأسية، فانفرجت أسارير وجهها بابتسامة فرح وحبور. وعلى ثنيتين فضيتين قهقهت عالية في صمت المكان، وهدير الوادي الكبير يتيه بين شعاب وفجاج بصرة الضيقة .
عادا في سكون إلى البيت، كما يعود المساء إلى شقوق الأرض ؛ فيملأ صواعدها وهوابطها، وينتشر على دواخلها وخوارجها .
في البصرة، وبسرعة البرق، انتشر خبر الاكتشاف العظيم ؛ فتسارع الناس إلى بيت ابن الهيثم لتهنئته بعمله الجليل، الذي سيعود بالنفع الجلل على أمته والأمم المجاورة. ومن كل فج عميق يأتي خلق كثير زرافات ووحدانا، يحملون على مطاياهم الهدايا، قاطعين صحراء البصرة وأحراشها ذات الرياح المالحة التي تسكن خياشيم أياما وليالي . امتلأ البيت عن آخره، وهيأت شامة متكأ للزوار من وبر الإبل والحـَلـْفاء التي كان يستعملها ابن الهيثم لطرد الديدان والحشرات الناقلة للأمراض .
أخذت مكاني من دهماءَ تحت سعفة النخل، وكان ابن الهيثم ، تحت التينة العظيمة، في باحة البيت، ممددا على البساط ، وقد ألمت به الحمى الخانقة، فمنعت شامة الزيارة، إلا أنها لم تتوقف، كنحلة مطنان، عن إطعام زوار وضيوف.
من تعبي وسفري الطويل من أسوار أسوان إلى أحراش البصرة قطعتُ معية الوفد أسبوعين في العراء، نمنا في غسق مدلهم، واجهتنا وحوش وضوار. سار بنا الوفد بالنهار إلى أن عن لنا مسجد البصرة الأعظم، أنخنا مطايانا ورواحلنا ، وانعطفنا في دروب ضيقة كالعروق. شاهدنا مباني من الطوب الأحمر، مسدول بأشجار اللحلاح اليابس إلى أن وصلنا بيت ابن الهيثم فوق تل العشار، حيث كان النفر غفيرا سادرا بكلام الحب والفرح. تناقلت الدهماءُ حديثا عن وفد أسوان المدفونة وسط الروامس القديمة، و ما يسببه نهر النيل من هلاك للبلاد والعباد .
انتظرنا إلى أن خف الصداع الذي ألم بابن الهيثم، وتكلف الوازني، وسط الوفد الغفير، بقراءة رسالة الخليفة الفاطمي يستعين بابن الهيثم ؛ لإنقاذ الناس من الهلاك المبين حيث يموت الزرع ويجف الضرع، ويفيض النهر على الشطآن؛ فيغرق البلاد والعباد . تقبل ابن الهيثم العرض بقبول حسن، فجهزت شامة الركاب، وعيناها ساقيتان من سواقي نهر العشار.


الكاتب : رشيد سكري

  

بتاريخ : 20/05/2022