في رأس زقاق تبدو بيوته تنتمي إلى عصر جيولوجي ماض بعيد، شاب يتاجر في السجائر المهربة. هو وحده الذي يعلم خروج وعودة ميلودة. قد يغفل حركية قطة أليفة قافزة أو منصفة من بيت ميلودة. لها زمنها وتوقيتاتها للبحث عن الاقتيات: نشل، تجسس، تربص، سرقة، اغتنام، مراقبة، تلصص.
قد لا يأبه لوجودها بالمكان إلا في حالتين. حالة فرح وانتشاء.. ملء بطن وحالة غضب وتهيج إن لم يسفر بحثها عما حواه الفؤاد. في الحالتين، تقفز وتعلو قفا ميلودة، وتحوم حول عنقه. يتلاطفان، يتلاعبان، يتغامزان، تهدأ بإقدام الزبائن، ثم تعود للكر.
يدخل ميلود اليد في الجيب، يهديها جبنة. ينتهي الاحتفال. تنصرف. تنفرد بالباب كأنها في حراسته لحين عودة ميلودة وفي سلتها قطعة لحم أو قائم دجاجة أو عظام مكتنزة. فجيبها الوحيد الأوحد نادرا ما تنيره الأضواء ولو خافتة.
***
ميلودة كما يبدو شكلها الظاهر، قصيرة المبنى خفية المعنى. تبدو في خطوها بريئة وتائهة وكأنها لا تفكر في شيء. بيضاء جلدها لحد الشقرة. تبدو مكتنزة القوام رغم نحافتها. فما تتدثر به كسوة قد يضلل الرائي الفضولي من لجوئها إلى البقال. تظهر راحتا يديها ومدار عنقها. وما يجري في الشرايين الزرقاء. وقد يكون بطء وتثاقل مشيها نابعا من نقص إنتاج الكريات الحمراء.
تلفظا لطلباتها الشحيحة، تتصدره نبرات سوسية و تلكؤات في الإيضاح، أما البوح بالماضي والحاضر والأصول والأعراف، ففي علم الغيب.
لاحظ البقال أن مقلتيها تبرقان غضبا. تمد إليه قنينة أصغر لتقطيرة بسنتيمات من الزيت. اشتمت نميرة فسطت على قطعة من لحم بقر لعشائها. وحلفت بالأيمان الغليظة أن تطردها طردة، ولن تتقبل عشرتها إطلاقا مهما كان الثمن.
استعجلت الوصول إلى البيت. بدت متجهمة. عيناها تكادان تنطقان بشرارة الانتقام.
ركلت ميلودة القطة نميرة بحذائها وكأنها تقذف بكرة حديدية. ماءت القطة بشدة. كشرت الأنياب. سطرت مخالب أطرافها الأربعة.فما أصابها ينذر بمعركة مصيرية. فما عاشته من عشرة كسبها طبائع المرأة. وقد حان الأوان لإبراز كل محنها منذ الطفولة للتلويح بها.
تصرخ بصوت مبحوح ومتوعد. استعارت المرأة عصا من بائع السيجارة. لم يبد الرغبة. حاول ثنيها عن الفعل. لم يفلح. توسل، ترجى، لكن إصرار ميلودة ما زاد إلا اشتدادا.
ضربة أولى. قفزت القطة إلى أعلى السيارة، فبادرتها بأخرى. تسللت للاختباء تحت هيكل السيارة. انحنت ميلودة لضربها.
في هنيهة، غابت نميرة. فلربما تسللت إلى البيت. فهي عليمة بخبايا مكوناته. فهناك تستطيع النزال للفصل والمراوغة والمقدرة على ضبط العراك ندا للند.
التقطت المرأة الغاضبة عصى المكنسة. تسلقت منيرة الأدراج. تعلقت بالقنديل. أسقطته أرضا. تكسر إربا إربا. ساد الظلام الدامس. أتبعتها بالأواني. تكسر ما كان هشا واعوجّ الباقي.
صارت ميلودة تضرب بالعصا. الضرب لا ينال نميرة. القطة تَرى ولا تُرى. نطت على الوجه بالأظافر. جروح وخربشات وعض. تشوه الوجه والقفا والحنجرة وأم الرأس. تدفق الدم غزيرا. لف كل الجسم وتدثر الأثاث والبساط.
أحست ميلودة بالعياء الأسود، فقشعريرة وخوار. خرجت توا وتهاوت فوقفت تبكي، تستغيث، تستنجد من في الداخل، المجموعة، بوليسي، عسكري، مخزني، البومبييا.. أموت.. لا تتركوها تهرب.. …أح.. أح.. أح.
تجمع البشر بالعشرات. الجار والغريب. تواكبت الأقوال، سالت الألسن.
قائل: أصيبت بالهول.
آخر: بالوسواس القهري.
قائل: بكابوس، فقدت عقلها…
بعض المتجمهرين أصابهم الذعر والحمية والعطف والحنان. حملوها جانبا. شرعوا في الستر والتطهير.
حضرت الشرطة وسيارة الإسعاف. حملوها. تفرق الخلق وكل لا يدرك ما حدث، فتأبط سؤاله وراح.. حيث اللاأدرية.
قصة قصيرة .. شغب القطة نميرة

الكاتب : عبد الله تغزري المنصوري
بتاريخ : 29/08/2025