قصة قصيرة : ضباب

رننننْ
نبّهتني السّاعة أن أنهضَ. صوتُها يغصّ الغرفة، ويغصّ رأسي. فتحتُ عينيّ بعسر، كذلك لمّا حاولتُ الوقوفَ فعجزت. كلّ شيء عسير هذا الصّباح. صوتُ المنبّه الملحّ على الازعاج يواصلُ قلبَ رأسي وقلبَ الغرفة.
أجمعُ قبضتي، أهشّمُ المنبّه المدوّر البلاستيكي الذي يشبهُ عصفورا أحمر. يخرس صوته. ويصرخ جرح في يدي. يتقاطر الدّم عصافير حمراءـ ترفرفُ لكنها سريعا ما تنصدم بالسّجّاد. أنحني حيث بقع الدّم، ألعقها وأنا أفكر: قال لي طبيب مرّة: «لا تهدر دمك» ونزع مسمارا من جبهتي. تدفّق الدّم غزيرا قانيا. احتار في أمره وقال: «أخرجْ لسانكَ والْعَقِ الدّمَ المسَال!»
صدر عن المنبّه المبعوج صوتٌ يشبه أنين الاحتضار:
أخبرتُك أن تغيّر الرّنّة!
مددتُ يدي أزيحه من المنضدة، تناثر على الأرض. رفرفَ العصفور بما تبقى فيه من ريش، وقال بوهن قبل أن تهوي عليه قبضتي من جديد:
– احذر الضّباب في الخارج!
في الخارج لم يكن ثمّة ضباب!
أغلقتُ كيسَ القمامة بيدٍ واحدة. يدي المجروحة أضمها في جيبي. وصلني صوتُه مُنَبّها:
– احذر!
أخطو وئيدا، أرنو إلى ساعتي، الوقتُ مبكر جدا على أي نشاط. أقتربُ من محلّ بيع حساءِ الفول.
(السّي حسن) ماهرٌ في تحضير الحَساء. فولٌ يابس، وثوم، وزيت زيتون، وخليط من أعشاب يحافظ عليه في قنّينة حمراء بلاستيكية، يضيفه في آخر تحريكة قبل أن يضع القدر على الطاولة الخشبية الكبيرة التي يتحلّقُ حولها الزّبناء.
– ما هذا الشيء في القنّينة؟!
سألتُه مرّة وأنا أسْتبينُ دقائقَ مسحوقِ الأعشابِ. أسلّ القنّينة من يدي، وحمّرَ فيّ بعينينِ جمرتين:
– ليس من شأنك. أنتَ تقتحمني.
وضعَ الصّحن أمامي، كان قد تعمّد إكثار الملح. قلتُ له مقطّبا:
– ملّحتها..!
خزر فيّ وعَاجَلني بقوله:
– لا تعدْ إلى هذا المكان!
وهزّ الكرسي الذي أجلسُه. ارتبكتُ فانصبّ ما في الصّحن على الطّاولة. ضحك أحدُ الزبائن وناولني منديلا وقال:
– فعل ذلك لأنك فضولي!
خرجتُ من المحلّ. التفتّ ورائي أقرأ لافتة فوق الباب: «حساء الفول» ابتسمت: «أحرى به أن يضيف، لا تسألوا عمّا في القنّينة».
نفسُ الفضول يبادرني الآن، وأنا على أعتاب محله. تلفّتُ في كل الاتجاهات، لا وجود لأحد من رواد المحل وزبنائه. تساءلت:
«ما الذي دفعني للخروج في هذا الوقت؟»
وخزتني يدي، أخرجتها من جيبي، كانت متورّمة وحمراءَ. مجرّدُ خدش أدّى إلى إدمائها فتورّمها. هالني الأمر! أينَ أبحثُ عن صيدلية أو مستوصف؟!
تحرّكتُ قليلا، تطلّعتُ إلى آخر الشّارع. كلّ الأبواب مقفلة. وعيتُ أن لا سيّارة مرّت منذُ خروجي، لم أرَ حركة من أي نوع! غريب! تذكّرتُ المنبّه، تولاني خوفٌ وتوجّس. عدتُ أنظرُ إلى يدي، تنفّختْ وثقلتْ. ازددتُ ذعرا. تفوّهتُ بعبارات مكتومة لا معنى لها. شيء ما يحدُث! لكن لا ضباب لحدود الآن! لا رغبة لي في مواصلة المسير. عدتُ أدراجي قرب محلّ الفول. كان الباب مفتوحا. هل رأيتُ ذلك من قبل، أم لا؟ السّي حسن مستيقظ يعدّ حساءه المعلوم. سأجدُ عنده مرهما أو مستحضرا كحوليا. يدي توجعني، وانتفاخها يتواصل.
انغلقَ البابُ خلفي، التهمني ظلام المكان. ناديت:
– السّي حسن.. صباح الخير..!
خطوتُ بتوجّل مخافةَ أن أُسقط شيئا، تحرّكتُ بحسب ما أتذكره حول المكان، ومع ذلك كنتُ قلقا أن أصطدم بشيء. توقفتُ وأخذتُ نفسا عميقا. ناديتُ مجددا:
– السّي حسن…!
الْتَمَعَ مصباح، انبعث ضوؤه خافتا يُبيّنُ لي – على ضآلته – ممرا ضيّقا يؤدي إلى باب خشبي. لا أتذكر أنّي رأيتُ مثل هذا التصميم سابقا! يعودُ صوت المنبّه يطنُّ برأسي: «احذرْ».
استدرتُ أريدُ الخروج من حيث دخلت. تفاجأتُ أن باب المدخل هو نفسه الباب الخشبي. الباب أمامي و ورائي! تجارى نبضي وأنا أرى معالمَ المكان تتغيّر. أحسستُ بزلزلة تحتي فإذا بعمودٍ إسمنتي ينهضُ من الأرض. تهاوى السّقفُ فتاتَ جِيرٍ مُتَيبّس. صارت الحجارة تنقلعُ من الجدران وتُصوّبُ نحوي، لولا أن الباب فُتح فاندفعتُ أطلبُ الخلاص من جنون ما يحدث.
في الدّاخل كان السّي حسن يصلحُ مُنَبّها مدوّرا بلاستيكيا، يشبه عصفورا أحمر. تألق وجهه لمّا رآني:
– وجدتُه في القمامة، كان محطما بالكامل، لكنّ الجزء الدّاخلي سليم تماما. لحظة أضع البطّارية، هَهْ! إنه يعمل، اسمعْ، تَكْ تَكْ تَكْ…! انتظر حتى أضغط زر الرّنّة. آه، الزّر، لا، يلزمه إصلاح!!
كنتُ مشدوها بما يحصلُ أمامي، وبما أسمع، نظر إليّ من فوقِ نظّارتيه السمّيكتين:
– أتريدُ حساءً؟!
– أريدُ أن أخرج!
– تخرج؟ والحساء؟ أنتَ ضيفي، لا يعقل! خذْ!
كان قد وقف أمامي في لمح البصر ممسكا بصحن فول، كيف أمكنه ذلك بهذه السرعة؟! استفهمت:
– كيف فعلت؟
– فعلتُ ماذا؟ دعني أضِفْ إلى صحنك مسحوق الأعشاب!
وأخرج قنينة حمراء، رشّ منها سبع رشّات:
– تذوّقْ!
– يدي! أرجوك! أنا أتألم!
– تذوّقْ. أعلمُ ما بها يدك، لهذا الزّر لا يعمل! لا تقلق مسحوق الأعشاب سيفيدك! استلقِ هنا..
رأيت سريرا يتسع لسبعة أشخاص تقريبا، يتضح أمامي:
– هنا؟
– نعم هنا! هاتِ يدكَ. أووه لا بدّ أن ألمها لا يُطاق. لكن ستكون بخير..! اشربْ حساءك قبل أن يبرد، واسترح قليلا، سأغيب لفترة، لا تغادر مكانك، لا تحاول الخروج، الضبابُ يعمي في الخارج. استرح..! سأضبط ساعة المنبه!
شربتُ الحساء، كان لذيذا، أنساني ألمي، ورغّمَ عليّ النوم، جفناي يثقلان، أغمض عينيّ على صورة السّي حسن يضعُ المنبه على منضدة قرب سريري. تَكْ تَكْ تَكْ…! نظري الآن ضبابي لا يسعني تمييز ما أراه. أغفو…!
رنننننننْ…!
نبّهتني الساعةُ أن أنهض. صوتُها يغصّ الغرفة، ويغصّ رأسي…!
أجمعُ قضبتي، أهشّمُ المنبّه المدوّر البلاستيكي الذي يشبه عصفورا أحمر…!


الكاتب : كمال الادريسي

  

بتاريخ : 23/12/2022