قصة قصيرة: غواية مقنَّعة

في أرشيف الذاكرة الشقية قصة بطلتها شخصية محبوبة ظاهريا، تعرضت للاغتصاب، وعاشت الحياة تنصب فخاخ الانتقام لمن دخلوا حلم الإيمان بطهرانيتها الزائفة، صعدت أدراج الوهم الشيطاني، ارتدت جلبابا ببياض ناصع قريب من بياض الكفن، وفي قرارة نفسها، دخلت قاعة لغط مأجور يتم التحكم في شخوصها عن بعد، تعذبت كثيرا، قضت الأسابيع والشهور ترقب ميزان الربح والخسارة بفرح مرضي يمنحها وضعا اعتباريا وسط عشيرة المنبطحين فوق هضبة اللغط المخدوم .
في لقائي الأول بها، غطت شعرها بقطعة ثوب مستورد، جعلت تضاريس صدرها بارزة تحت قميص أبيض شفاف، وفي الأسفل سروال جينز به ثقوب عند الركبة والفخذين، اختلط علي الأمر، وقالت إن الحجاب يبعد عنها المتحرشين.
أدخلتني حانة بهندسة ذكية، الموائد ثنائيات منشغلة بنداء الجسد وهمس الأعضاء العطشانة، فوق رؤوس الجميع ترقص شياطين اللذة المأجورة وتنصب شباك الإغراء والهوس باشتهاء المد والجزر بين الأجساد المعطوبة، لا أحد يهتم بتناقضات الوضع، ولا جدوى من سؤال الأنفاس المتقاطعة والأيادي المتشابكة ونظرات العيون الولهانة.
حضر النادل ببذلته الموحدة وصينيته الفضية، استفسر عن المراد، سحبت قطعة الثوب عن رأسها بحركة متوترة وطلبت ثلاث بيرات باردات، فاجأني الطلب، قرأت في نظرتي ما يشبه التعجب، ابتسمت وقالت:» البيرة من الشعير، والشعير حلال!»، تظاهرت بالاقتناع، واخترت نفس الطلب.
أفرغت السائل الذهبي في جوفها بطريقة احترافية، تناولت حبة زيتون، راقبت المشهد بتركيز واندهاش، في السابق، اعتقدتها ملتزمة بتبعات ارتداء الحجاب وإخفاء شعر الرأس، احترمت عبورها المحتشم وسط درب التماسيح، ولولا صدفة الالتقاء بسوق الكلب الموبوء ما كنت أجالسها الآن وهي تمرر يمناها على شعرها بشكل يفضح جاهزيتها لممارسة الحب غير الحلال.
خرجت سالما من بركان الصدمة، أطفأت حرائق الدهشة بالاستمتاع بمذاق الحسناء الشقراء، وبقية الاستغراب دفعتني للسؤال عن أسباب إخفاء حقيقتها، داعبت فم الكأس الباردة بأصبعها المنحوت، اعترفت بكونها تتحاشى تعليقات الذئاب الملتصقة بزوايا الدرب، وتتفادى تحرشات البغال المخصية.
طلبت سيجارة، أشعلتها وحركت رأسها حركات حاولت اتباع إيقاع أغنية كلثومية معروفة، «رجعوني عينيك لأيام ..»، في الحلق غصة، وفي البال سؤال عن الأسباب والدوافع، لا تصدع رأسك بما ترى، قالت، هي قصة طويلة، وأس البلاء اغتصاب وحشي في درب الأمان المستباح.
فعل السائل الذهبي فعله، سرى الخدر اللذيذ في شرايين الجسد العطشان، طال الصحو المشروط المناطق المتوارية خلف ظلمة وتراكمات الوعي المزعوم، واشتعلت الرغبة في المزيد من البوح وتمزيق الأقنعة.
ما علينا، حادث الاغتصاب وقع وقت الظهيرة حيث تخلو الدروب والممرات المتربة من فضول العاطلين وشغف الأمهات بمطاردة جديد العابرين، من خلاء به أشواك وأتربة وأكوام أحجار وإسمنت وأزبال، خرج الوحش وارتمى على الجسد الخيزراني، جره خلف الهضبة، حول العناق والاحتضان والتقبيل، وبالعنف الوحشي، مزق القميص الناعم، لكن الصراخ الهيستيري أثار عابر سبيل غريب، خلص الضحية من مخالب الوحش المفترس، ومنع عن الجسد جرحا لم يكتمل.
ثنائيات الموائد العشوائية لا علاقة لها بطبيعة الجلسات الحميمية، أفرغت قنينتها الثانية، أشعلت سيجارة أخرى، اعترفت لي بأنها أقسمت على الانتقام من الجنس الخشن، بجمال الجسد وإغراء النظرات الفاجرة سهل عليها اصطياد الضحايا في كل حين، صرت جنية، قالت، أمارس حقي في تعذيب من يقترب مني، أهديه الحب الزائف والوعود السائبة، وحين تشتد عليه أعراض الحب والتعلق، أمضي لضحية أخرى ساقها نحس الطالع لطريق جريحة آلمتها وحشية الذكور.
بدا علي أنني لم أقتنع بالقصة، طلبت المزيد من السائل الذهبي، سألتها عن نهاية سلسلة الانتقام، وما علاقة قطعة الثوب فوق الرأس بهذه المأساة المشاع؟!
سخرت من سذاجتي، ابتسمت وقالت: «يا حبيبي هذا الزيف هو الطعم الذي جعلك تنتبه لي، كثير من الذكور تشتعل لديهم نزوة الفراش حين تعبر أمامهم تضاريس مغرية تخبئ جزءًا من تفاصيلها بحجاب، يستسلمون لوهم أنهم أول من يحرث الأرض العطشانة، يتلذذون بإحساس الركوب فوق جغرافيا المنع والإثارة، ويتجاهلون أن اللباس لا يصنع الراهب!»
كلهم ظلوا عبيدا لسحري، واصلت حكيها بصوت مهموس، كنت أتأكد من تعلقهم الشديد بي، أتيقن من احتلال عطري لحواس العشق والاشتهاء، تحركني حاسة الانتقام، ودون مقدمات، أضع نهاية لسطر الإغواء والقناع بجملة «مع السلامة!» ذات المفعول الصاعق.
أفرغت ما تبقى بالكأس في جوفي، نهضت وقلت لها «مع السلامة»، قالت لي «فين احنا يا اللاه جلسنا»، أجبت بأني لا أرغب في أن أكون الضحية القادمة، من الآن أفلت بجلدي قبل أن تغرسي الفأس في الرأس، فجرت ضحكتها الفاجرة، جرتني من يمناي، وقالت: «اجلس ولا تخف، ألم تلاحظ أني أزلت الزيف واعترفت لك بالحقيقة، أنت حبيبي وقلبي لك !»، عدت للجلوس، وقلت:» حبك لعنة، غ الله يخرج العاقبة على خير!».
فجأة توقفت أغاني فيروز وأم كلثوم، امتلأ الفضاء بحشرجات شيخ متصابي واعترافات شيخة سكرانة، وأنين الكمان البلدي يرافق أصواتا تفضح تفاصيل حب يوصل أصحابه للكوميسارية والزنزانة، وسباب وشتائم ودعوة فاضحة لممارسة الحب الحرام، عم اللغط والقهقهات، انتقلت الحوارات المهموسة إلى الصراخ السائب، وكما لو أنهن تلقين الأمر السري بالتفاعل، صارت حلبة الرقص مزدحمة بأجساد أدمنت التعبير عن تضاريسها، تحررت الحركات والالتواءات من سلطة الحياء المفترض، وتوالت تنهيدات العيون الملتصقة بالصدور وما تحتها، ورددوا جميعا «زيد سربي يا مول البار زيد سربي !!!»
لم تنته جولة الرقص الداعر، تواطؤ غريب وحَّد الذكور الملتصقين بالكراسي، تلاحقت أغاني شتم الحبيب الخائن وتهديده بالانتقام والعثور على الأجمل والأكثر وفاء، وسيدتي المحجبة استلذت رقصة إبراز المؤخرة وارتعاشة النهدين تحت القميص الشفاف وفوضى تحريك الشعر على إيقاع ساكن العلوة سيدي حسن، ومنها لسيدي بو السلاسل وگلاع الضيم.. وبعد شوط الرقص المحموم عادت لكرسيها، تناولت كأسها المملوءة، أفرغتها في جوفها دفعة واحدة، التفتت إلي وقالت : « عزيز علي نبرد هوايشي واغدايدي في الشطيح والله يسمح لينا وصافي!».
توقفت الموسيقى، هيمن صوت ارتطام الكؤوس والقناني، توالت تصفيقات مجهولة المصدر، حان وقت الإغلاق، قالت، أخرجت قطعة الثوب المستورد، غطت شعرها، عادت متحجبة كما كانت، وفي المحيط سرت حركة غريبة، استعجلت النسوة ارتداء الجلابيب، ومنهن من أخفت تضاريسها في سواد وهابي، صحوت من مفعول البيرة، نظرت للمتشحة بالسواد نظرة استغراب ودهشة، وكأنني لم أر ما رأيت، أخفت كفيها في قفازتين سوداوين، وفي ما يشبه التبرير، قالت:» احنا ما باغيات والو، باغيات غ التيقار!».


الكاتب : حسن برما

  

بتاريخ : 10/09/2021