أولى خيوط الشمس الدافئة تتسلل عبر فتحات دفتي النافذة، مشَكِّلة جزرا متناثرة على جدار الغرفة (…) بينما نحن الثلاثة ممددون على سرير واحد… «العجوز والبحر» وأنا… همنغواي كان ضيفي المميز ليلة أمس (…) لعلها السابعة صباحا، أو هكذا تبدو الساعة الحائطية التي شقّها ضوء الشمس (…) تبدأ يومك هذا بقضم بعض الصفحات داخل الفراش … قبل أن تلتهم خلسة ما تبقى من ملحمة «همنغواي» في زاوية المقهى المعتاد (سانتياغو) يشبه أناسا كثيرين أعرفهم! بل إن منهم من ظل إلى الأبد داخل قاربه من دون أن يظفر بسمكة واحدة !!.
فجأة، داهمني صديقي الذي دلّه النادل إلى مكان اختبائي .. تركت الكتاب جانباً، وانشغلنا سوية باقتيات الأخبار اليومية، غلاء الأسعار وتدهور المعيشة، وصولا إلى بؤس السياسة وعهر الساسة، تجشأنا من فرط التخمة … قبل أن تحاصرنا التوجسات ودخان السجائر المتصاعد حولنا (…) عم الصمت بعدما أفرغنا ما بداخلنا من مماحكات وخيبات من مختلف الأحجام (…) أحدق إلى المارة على قارعة الطريق وطابور المتقاعدين أمام مركز البريد … بينما صديقي يتصفح هاتفه …
– لقد أضحت هذه الهواتف الذكية أشبه ما تكون بسيوف حادة؟؟؟ يهز رأسه :
– هل قلت ذكية؟
– أجل إنها ذكية على نحو لا يصدق ، بل و أكثر ذكاء من أصحابها في معظم الأحيان..
صدقني يا صاحبي هذه الهواتف النقالة احتوت الإنسان وأعادت صياغة الكثير من صفاته .. إنها تغتال كل الأشياء الجميلة في حياتنا … بل لم تسلم منها حتى تلك اللحظات الدافئة برفقة الأسرة .. هل تفهم ما أعنيه! عدلت جلستي،
– أستطيع أن أقول لك – بكل وثوقية – أن ثمة ثلاث محطات تاريخية كبرى غيرت حياة الناس (اكتشاف النار، اختراع الكتابة ، ولادة الهواتف الذكية
– لا لا .. ليس إلى هذا الحد عزيزي .. إنك تميل إلى التهويل
وضع هاتفه جانبا وبدأنا نمسح سوية جحافل المارة على الرصيف
– الناس في هذه المدينة يتأبطون خيباتهم منذ سن مبكرة
– أجل .. ثم استطرد: التأبط صفة بشرية محضة
– إنك تنزع إلى التفلسف .. قاطعني ساخرا (هذه ملاحظة متحاملة).. أنظر إلى شاشة التلفزيون هناك! تكاد أخبار القتل والدمار تكون وجبة إخبارية وحيدة .. حروب العالم الحديثة تدمر حضارة الإنسان بحجة تخليصه من دكتاتورية إنسان آخر! قدر العربي أن يتشرد باسم ثورة قبل الأوان..
– هل قرأت ديوان نزار قباني الذي تحدثنا بشأنه؟
– ليس بعد..
– إلى متى ستواصل تأجيل مشاريع القراءة ؟!
قطّب حاجبيه ثم أشاح بوجهه قليلا .. وتمتم قائلا :
– القراءة تحتاج إلى مزاج جيد ومتسع من الوقت..
-يا صاحبي حاول أن تسترق الوقت غلى غرار استراقك للقُبل..
– دعك من الحفر في الأرشيف..
ثم لاحت ابتسامته الماكرة وهو يسحق قطعة السكر براحتيه … وغاصت نظراته داخل كوب الماء فوق الطاولة (…)، انصرف صديقي الذي نسي موعده مع طبيب الأسنان، بينما غادرت المقهى باتجاه المنزل (…)، عرجت على بائع الفواكه لاقتناء البرتقال الذي تتلقفه الأيادي لرخصه (…) وفي طريقك، تشتم في سرك أمر المجلس البلدي، تدندن أغنية كبحار يسحب شباكه، تبصق كالثمل على الإسفلت وأشياء أخرى (…) تحاول عبثا الحفاظ على توازنك في مدينة شديدة الميلان…
قاص من خنيفرة