رمضان، لا صلة تربط هذا الرجل بطقوس السحور، ولا بصلاة التراويح. ومن المفارقات أن هذا المصري، المنتمي إلى جماعة «الصليب الوردي»1 التي تؤمن بمعتقدات «الكابالا»ّ2 وخوارق الحضارة المصرية القديمة، قد عزم على الدخول مع مغيب شمس اليوم الأخير من شهر الصيام الذي يحمل اسمه إلى الثكنة العسكرية التي يستعد مدفعها للإعلان عن موعد الإفطار بطلقة احتفالية.
كان بصدد إنجاز المهمة الأولى التي كلفه بها صديقه النقيب، والتي بدت له لا ترقى إلى مستوى المهمة الثانية بالغة الأهمية. فتفجير مخزن ذخائر، لتوريط الكولونيل المسؤول، لا يعادل متعة تسلم صندوق آثار فرعونية، بدل هذا المسؤول، من السفارة المصرية ينوي سفيرها إهداءه إلى الثكنة. وبهجة السفر مع صديقه النقيب محملين بصندوق الآثار العسكرية، التي خلفها في مصر الإسكندر المقدوني، إلى المتحف المصري في سان خوسيه بولاية كاليفورنيا، لا تعادلها إلا بهجة الحج السنوي لأفراد طائفتهما السرية إلى الهرم الأكبر.
ما إن تجاوز بسيارته بوابة الثكنة،بعدما أدى له الحارس تحية خاصة تليق برتبته الرفيعة المتقمصة، حتى شرع في التصرف وفق ما برمج له سلفا.ركن السيارة في المرأب المواجه لمرأب الدبابات، ثم نظر إلى المرآة العاكسة فرأى فيها وجهه، وفي وجهه رأى ملامح الكولونيل. تذكر تشابه ملامح تماثيل ملوك وادي النيل، فبدت له فراسة صديقه النقيب معادلة فراسة النحات المصري القديم؛ كيف لا وهو الذي اختاره من بين الملايين ليتقمص شخصية الكولونيل.
فتح باب السيارة وترجل منها حاملا لفافة سلك كهربائي، ثم وقف بالطريقة التي ينتصب بها ذاك الكولونيل، وهو يفكر في وقت المغرب،وفي المغرب هذا البلد الذي يقيم فيه، وفي اسمه واسم شهر الصيام.وأقسم، في نفسه،بإلهه»آتون»3 أن صديقه النقيب قد تعمد،على نحو لا يستطيع هو تفسيره، ضم هذه العناصر المختلفة والمتناظرة في توليفة واحدة بغية تحقيق هدف،ربما هو أهم وأخطر من المهمتين المكلف بإنجازهما.
ذكره «آتون» بسماء بلده مصر، فرفع رأسه صوب سماء المغرب التي تعلوه ليرى السحب كدخان بارود،أو هكذا أرادها أن تبدو. سار مقلدا مشية الكولونيل وفكر: «الآن أمشي مشية الكولونيل مجازا، ويوما ما سيمشيها صديقي النقيب حقيقة». وبدت له فكرة وقوع هذه الثكنة تحت سلطة مغربي، ينتمي إلى طائفته السرية، أفضل من استمرارها تحت سلطة رجل مسلم.
تفحص منشآت الثكنة، فرآها مطابقة للتي حفظ معالمها في الخريطة: أدراج مبنى الإدارة التي سيصعدها في ما بعد،الأركان التي تتكدس فيها المعدات،وحتى عدد الأشجار المجندة في الثكنة. قدم له بعض الجنود تحية عسكرية ومضوا مسرعين كي يستعدوا لطعام الإفطار،بينما مضى هو متسللا بين حشد من مومياوات معدنية مزنجرة ومعطلة، وما إن رأى المخزن المهيب المتاخم للجدار الخلفي حتى أخذت الأمور تسير بسلاسة: الهرولة في اتجاه الباب الحديدي الصدئ،الإجهاز على القفل بكسارة معدة سلفا، النظر إلى عدسة كاميرا المراقبة ومنحها فسحة زمنية كي تسجل عبر ملامح وجهه، ملامح الوجه الآخر الذي ينبغي الإيقاع به.
دون أدنى تردد اندس إلى الداخل.حمل عبوة ناسفة من زاوية المخزن ووضعها بين معادن القوة المدسوسة في تجاويف أسطوانات التدمير بعد ربطها بأسلاك التوصيل. مد الأسلاك عبر الباب في اتجاه مبنى الإدارة وقذف طرفها المشدود إلى ثقالة نحو سطح البناية،ثم التقطه بعدما انعطف صوب باب المبنى وصعد الأدراج إلى السطح. جلس ليسترخي وعيناه على المدفع المخصص لإطلاق قذيفة الإفطار،بينما إبهامه يرتعش على زر التفجير.
تقدم جندي نحو المدفع ونظر إلى ساعة يده،ثم ضغط على الزناد. وبالتزامن ضغط رمضان على زر التفجير وابتهج وهو يرى المخزن يقذف حمم جحيم»سُج»4 ويلمح بين أوارها «هاديس»5 يرقص متناغما مع رقصات لهيبها.
منح صوت المدفع الذي غطى على صوت العبوة الناسفة فسحة زمنية لقدمي رمضان كي تسبقا أعين الجنود التي لن ترى هذا الحريق إلا في ما بعد،وتغادرا الثكنة بأمان. وما إن تجاوز البوابة حتى لاحت له تفاصيل المهمة الثانية، فانطلق صوب السفارة المصرية كي ينتظر، في مقهى مجاور، حلول الساعة العاشرة ليلا ليحضر الاحتفال ويتسلم، بدل الكولونيل، صندوق الآثار.
مرت لحظات صمت مكللة بشعور من المرح عمّ صالة الأكل في الثكنة، قبل أن يكتشف الجنود أمر انفجار المخزن. جرى بعضهم لإخماد النار، وذهب آخرون لتفحص شاشات الكاميرات.
اتصل أحد أعداء الكولونيل بالجنرال، واتصل أحد الأوفياء بالكولونيل ليخبره بما حدث وبصوره التي التقطتها الكاميرات،فسارع إلى فتح هاتفه ليشاهد الشاشة المتصلة بكاميرا الثكنة، وفي الحال أدرك خطورة الأمر. كان يعرف ألّا عدو له في هذا الكون سوى ذاك النقيب الغريم الذي يسعى دائما للإطاحة به، انتقاما لنفسه من السنوات الطويلة التي تخلف خلالها وراءه بأشواط في الدراسة، وثأرا لكبريائه من الجولات الكثيرة التي انهزم خلالها أمامه في لعبة الشطرنج. فعرف فورا هوية الذي خطط للمهمة، وعليه الآن أن يتعرف على هوية منفذها الذي تقمص شخصيته. وأدرك أن على بديهته مسابقة الزمن وأقدام الشرطة العسكرية لحل هذه المعضلة، قبل أن ينقضوا عليه ويصفدوا يديه.
كان الكولونيل يدرك أن غريمه النقيب لن يكتفي بالإيقاع به، بل سيرغب، تحت الشعور المتنامي بالنقص، في بث إشارات، ولو لنفسه، تؤكد تفوقه في هذه المهمة. وصدق حدسه إذ وصله في الحال من غريمه، عبر الواتساب، رابط أحد منشوراته. فتحه فلاحت له آخر تدوينة للنقيب في فيسبوك، وقرأ: «دوى المدفع في الثكنة معلنا عن الإفطار وعن رحيل رمضان».
لم توح له التدوينة بشيء ذي أهمية، فخرج من صفحة النقيب ودخل إلى صفحته هو. وما إن قرأ تدوينته الأخيرة حتى لمعت في ذهنه فكرة، بدت له في الوهلة الأولى جنونية، ثم شرعت رويدا رويدا تحتل مكانا ضمن نسق تفكيره المنطقي.
كانت العبارة هي: «تحت تأثير الفارق في عدد نيترونات أو ذرات النظائر تتغير خصائص المواد، والأشجار التي يحييها الماء يقتلها الماء الثقيل». وكان ذهنه، في الآن نفسه، يربط بين أجزاء أبسط التفاصيل ليفهم أحجية ما حدث ويفك طلاسم اللغز.
عاد إلى تفحص صفحة غريمه، فمنحته لائحة أصدقائه الجزء الناقص من الأحجية: اسم الرجل الذي تقمص شخصيته وصورته. ولما دخل إلى صفحة هذا الرجل المدعو رمضان عرف، من طبيعة تدويناته، انتماءه السياسي ومعتقده الديني، وأدرك من بعض التعليقات أن النقيب أيضا ينتمي إلى جماعة الصليب الوردي.عاد إلى آخر تدوينة لغريمه وابتسم وهو يقرأ كلمة رمضان.
أكسبته سنوات الاحتكاك بهذا الغريم، وعدد الجولات التي انتصر فيها عليه في لعبة الشطرنج، قدرة رهيبة على قراءة أفكاره، ولم يجد صعوبة في ربط أجزاء الأحجية؛ لقد أراد هذا الغريم، الذي جعله ضعفه في
استيعاب مادة الفيزياء يتأخر بأشواط دراسية خلفه، بعدما قرأ تدوينته عن النظائر، أن يهزمه في لعبة الشطرنج وفي لعبة فيزيائية في وقت واحد، ففكر في مقلب يجعل عناصره مكونة من المخزن الذي يماثل النبات ومن الكولونيل الذي يماثل عنصر الماء الذي يحيي النبات، ومن رمضان النظير، أو الماء الثقيل الذي يجهز على هذا النبات.
تأمل طويلا هذه النظائر. وحين فكر في هوية رمضان المصرية وعلاقة جماعة الصليب الوردي بالعلوم المفترضة لحضارة مصر القديمة،لمعت في ذهنه صورة الصندوق الأثري الذي يُفترض أن يتسلمه على الساعة العاشرة ليلا خلال احتفال خاص، فربط بين الحادثة وتوقيت الاحتفال،
وأدرك بنباهة أن الحادثة التي حلت بالثكنة هي مجرد مقدمة لما سيحدث في السفارة، وأن اختيار هذا اليوم بالذات لتنفيذ الجريمة الأولى هو اختيار ماكر، يتيح لرمضان تسلم الهدية في ساعات الارتباك التي تفصل بين وقت تنفيذ الجريمة ووقت تسلم الهدية، وهو الوقت المناسب الذي سيكون هو فيه بين أيدي الشرطة العسكرية،قبل ذيوع الخبر وقبل علم السفارة التي سيقدم فيها السفير الهدية الأثرية لرمضان، ظنا منه أنه الكولونيل، في ساعة سيتعذر فيها حضوره.
أدرك أن السنوات التي أمضاها في لعب الشطرنج مع غريمه لم تذهب سدى. فقد تأكد حين رأى خطط غريمه أن ما سيحدث بعد الآن سيكون من تخطيطه هو، ومرة أخرى سيهزم غريمه في جولة نهائية في لعبة شطرنج مختلفة، لعبة أحد بيادقها سيكون هذا المدعو رمضان ورقعتها ستكون سطح الأرض.
حمل الهاتف بسرعة واتصل بالسفارة. أخبرهم بتفاصيل ما سيحدث، ومدهم بالخطة التي ستنهي رمضان وذاك النقيب، مثلما اتصل بالشرطة العسكرية وأخبرهم بما وقع وما سيقع.
في العاشرة ليلا، دخل رمضان مزهوا إلى السفارة، وبعد طقوس احتفال تحملها مكرها، خرج يحمل صندوق القطع الأثرية.إثر مرور نصف ساعة كان بيت النقيب أمام عينيه، وكان هو أمام أعين الشرطة التي تعقبته بحذر. وفي شقة النقيب، بدأ احتفال حقيقي بنصر لم يدركا أنه مزيف، إلى أن اقتحمها أفراد الشرطة وحل الصمت محل الموسيقى.
تطوع شرطي وقال للنقيب بمكر: “هذا الصندوق الأثري مزيف شأنه شأن عميلك رمضان، ولا شيء كان حقيقيا أثناء احتفالكما سوى أنت وجرائمكما”.
عند الساعة الثانية عشرة ليلا، توصل النقيب المتهم القابع في مخفر الشرطة، عبر واتساب، برابط منشور فيسبوكي من الكولونيل. فتحه بحنق وقرأ:»انتهى رمضان وحل عندئذ عيد الفطر».
هوامش
1الصليب الوردي: منظمة مسيحية صوفية تأسست سنة .1915
2 الكابالا: أو القبالة هي معتقدات روحانية فلسفية تفسر الحياة والكون والربانيانت.
3 آتون: هو الإله الذي أعلن عنه أخناتون حين وحد الآلهة في إله واحد.
4 سج: هي جهنم عند المصريين القدماء.
5 هاديس: هو حاكم العالم السفلي.