قصة قصيرة : من أحلام مشلول

حائرًا على أكثر من رصيف، حالمًا بالتيه اللذيذ، قريبًا على بعد ، راغبًا في الفرار من آلام تقتص من كل عضو فيه، لكن ما يحزُّ في قلبه أن قدميه شلتا حتى إنهما لم تعودا اللحظة تقويان على مجرد الوقوف، فكيف لا تطفئان في نفسه كل هبَّة منه إلى قيام، أم هل يسير على أجنحة من أخيلته، نحو أقرب السبل إلى أبعد كوكب، بل إلى أبعد أماكن الروح ، متخليًا عن جسد لا يمكن التفكير به دون تخلٍّ عن رغبات حسية لا تكف عن التأجج فيه؟
مشى من بداية ذلك المساء حتى غروب شمس كان لا يريد لها أن تغيب، آملا أن يطيل حديثه إلى قدميه وهما تطفران على طريق تمنى من أعماق نفسه أن تتحرك العوالم من حوله دون أن يرى ما ترتديانه ، فهل كانت قدماه عاريتين؟ على طريق لا نهاية لها مثل شيخوخة تنوء تحت ألف عبء، وآلاف العلل التي لا أسماء لها في ذهنه.
أراد المسكينُ أن يتصور متعة فقدها، كان لا يدري كيف أنه كان يستبد به اشتياقه إلى المشي، حتى حين لا تكون به رغبة في الذهاب إلى أي هدف، ولو كان في جمال أزهى بستان أو أروع وردة .
حرك يديه وهو يتصبر فيسمِّى ما حل به بالشلل الجزئي العابر ، لكنه خاف من شلل دائم يعم جسده ، فيفقده حتى القدرة على التحكم في فمه وما يريد الإفضاء به. مما لا يفوقه راحة إلا شلل ذهني رحيم يجهز على آخر ما يؤلمه : كوابيسه هذه التي لا تنتهي ، وصور تنثال على شاشة تعرض أمام ناظريه كل ما تستطيع النار إلحاقه بهدوء عالمه ووداعته، من زلازل تخرب كل بنيان، وفيضانات تذهب بكل بستان، ووقائع اصطدام وانهيارات تفجع كبد كل إنسان.
«فكيف كانت قدماي تستطيعان قبل الآن السير في فرح غامر، على سفح ذلك الجبل البعيد ، أو في جوار أمواج هذا البحر، حاملة إياي على الاستمتاع بصدق هنا وهناك، وأن أرى عظمة رسوخ الأحجار وتراصَّها وتماسكها هناك ، أو استسلام الرمل والماء في بساطة تحت خطواتي هنا، دون أن تتطاير حصاة واحدة أو تتساقط من ذلك الجبل العالي الثابت في شموخه صخرة واحدة، أو تنداح حبة رمل هاربة من أي نبض تخفق به تحت قدميَّ الباردتين.
لكنني لم أر وردًا بلا ورق من أي نوع ، يزهو في ضوء ، أو يذبل تحت عتمة ، منذ زمن بعيد.
فعلى هذا الشط لا قدرة لشيء أو لون، ولا رغبةَ لما يتراكم على مد النظر من رمل نقي صافٍ، في إخراج أي نبت بهيج.
فشلَـلِي يائسٌ، وقدميَّ لم تعودا تحلمان بالسير إلى غير هدأة تسوخ بهما إلى قاع قبر وحيد».
يقف وينظر في جميع الاتجاهات، ويتوقف ثمّ ينظر إلى الأعلى، مفترضاً أنه مُكـرَهٌ مَغلوبٌ ، تغيم عيناه بدمع وهو ينظر إلى إحدى شقيقاته، فيرفع كفه اليمنى محركا إصبعيه السبابة والوسطى ، وكأنه يقول لها إن الباقي من عمره لن يتجاوز اليومين، فيحس بقهر جارح، فها هو ذا حتى حين يطلب من قدميه أن تسيرا به فإنهما تتمردان عليه، وتقاومانه رغم أنه يجتهد في استعطافهما، ويفكر أن من أراد له أن يكون على مثل وضعية العجز هذه ،هو واحد أعلى منه، وأنه ربما كان يرى أن يعاقبه، فيهمس له أو لنفسه من خلال حجاب، وقد اغرورقت عيناه:
« لماذا ؟ أترى في ما ألحقته بي يا ربِّ عقاباً منصفاً في حق من كان من أمثالي ، وقد أمضى أكثر من ستين عاما جحيمية على هذه الأرض، أو بالأحرى في أدنى طبقات هذه الحياة الدنيا؟
ألا يستحق إنسان أفنى أيامه حبيس التزامات قاسية مصيرًا أحسن؟
فكيف توضع قدماي في قيود تشلها، فأسجن على كرسي متحرك، والأفضل القول إنه كرسي لا قدرة له على الحركة إلا بتطوع من محسن يدفعه لبعض الوقت، أو من يدِ كريمٍةٍ، وإلا فإن الكراسي المتحركة حقًا هي تلك المناصب التي يطفـر منها إلى ما هو أحسن منها كلُّ من يتقَلَّدها».
فيكفكف الرجل دمعاته لأنه لا يريد لنفسه أن يبدو في مظهر ليس أذل منه إلا مظهر المتسول المغلوب على أمره، الذي يأمل أن يتحرك في قلب غالبه ما يحمله على التراجع عن امتصاص حقه هو، وحقوق سائر المغلوبين.
ثم يفتح فمه وهو يطلق صرخة احتجاج، ليصحو فيجد نفسه يقاوم ما التوى على كامل جسده من ملاءات غطته منذ أول ليله، وهو يخضع لقبضة كابوس ثقيل، فلم تكن ليسمع صراخه غير من يشاركه حجرة نومه، لكنه في حالة ما يعانيه منذ أيام ، لم تردد صدى صرخته غير جدران حجرته المهجورة هذه، فقد وضع حارس منامه في أذنيه وقرا اصطناعيًا حتى ينام في دعة وبين يدي أحلام هادئة.
فلا يملك ألا أن يلتمس في ظلمة حجرته راحة من دمع يطهّر نفسه، رغم أن ما يملأها من حسرات لا يكفي لمحوه ما يذرفه ، إن كان في كمِّ أمواج هذا البحر الواسع الكبير.
يفطن إلى دمعه وهو يهمي بغزارة، فيتساءل:
« أدَمْعُ ندم هذا أم دَمْعُ توبة؟ أم هل هو دَمْعُ أسَفٍ وتًحَسُّرٍ بعد انتهائي إلى حال طالما حَذَّرني من يحبُّونني من اقتراب وقوعي فيه»
إذن فإصابته كانت حتمية ، بل إن من يتأمله حتى اللحظة يتعجب من كونه كان ولا يزال يحفر قبره بأصابعه التي ما زال يرفع بها مسدس سيجارته القاتلة إلى شفتيه الذابلتين فتقبلها بانتشاء زائد ، الواحدة بعد الأخرى.
هل هو المرض الخبيث ينخر عظام عموده الفقري ويتسرب من ثمّ إلى قفصه الصدري ويمتد يحز في أمعائه حزًّا بما لا يقوى على احتماله من آلام؟ وينادي مسترحمًا مستغيثًا باسم إحدى شقيقاته:
«أختاه (خ) ، إن سكاكين حادة تمزق أمعائي»
تذكر» ريم» وآلمته استحالة عودته إلى مشاركتها مرح جريها ، وكركرة ضحكها وهي تتفجر شبابًا وحيوية، كما صعب عليه أنه لن يعود إلى «إيناس» ليحثها على الإمعان في ملائكيتها ، ويوصيها بالحدب والحنو على كل مصاب يعرض عليها.
بينما لم يكن على أمه ، وهي تنظر إليه من قمة عجز أواخر شيخوختها، غير التذرع بصبر مريم البتول، وهي ترى حبيبها يقاد إلى الموت على صليب آلام ، تحت سياط داء خبيث لا يرحم.
لا غرابة إذن أن يُشَلَّ مُسِنٌّ مثلُه، فكم شَّل في عالم القسوة والظلم الذي يضمنا طفلٌ وديع يفيض براءة ويستحق أن يوهب أجنحة فراش.
يتذكر المشلول الآن أحلامه وهو طفل طالما رفرفت به أجنحة كان يملكها، واخرى كانت في ملكية من يحميه.
لكنه لم يجد الآن بين يديه من كل أحلامه إلا ظلال سراب تبخَّـر، ويستعيد بعض صُوَرِ ماضيه، فلا يقوى على إحياء غير فجائع مروَّعَةٍ من مآسيه.
ويعود إلى النظر إلى من هو أعلى منه، فتملأ عينيه أشعة نار تملأ كل ما بين مآقيه،
فتكاد تذهب بنعمة بصره فتعميه ، فلا يعود من غضبة احتجاجِهِ إلى رشده، فيتيه .


الكاتب : أحمد بنميمون

  

بتاريخ : 21/01/2022