في زوايا بعيدة عن أعين المجتمع، تنمو طفولة حزينة لا تعرف الدفء الأسري ولا صوت الأم أو حنان الأب. أطفال وُلدوا خارج إطار الزواج، أو في ظروف اجتماعية قاسية، فكان مصيرهم التخلّي عنهم، والإيواء في دور الرعاية الاجتماعية، يحملون أسماء مبتورة، وهوية غامضة،
ومصيراً يلفّه الغموض والأسى.
العديد من الأطفال المتخلى عنهم يعيشون داخل المؤسسات الخيرية ودور الرعاية في المغرب، أجيال من الصغار وجدوا أنفسهم داخل هذه المرافق الاجتماعية، بعضهم تمّ التخلي عنه فور الولادة، والبعض الآخر بعد شهور أو سنوات قليلة، القاسم المشترك بينهم أنهم حُرموا من أبسط الحقوق التي ينبغي أن تكون بديهية لأي طفل المتمثلة في أسرة، هوية، وبيئة مستقرة.
أطفال غالبا ما يحملون فقط اسما صغيرا ولقبا عائليًا وهميا وهو «إكس»، لأن القانون لا يسمح بإثبات نسبهم في غياب اعتراف الأب، ورغم بعض التعديلات القانونية التي حاولت إنصاف الأمهات العازبات ومنح الأطفال وضعا مدنيًا، إلا أن الهوة بين النص والتطبيق لا تزال عميقة.
من داخل إحدى دور الرعاية بمدينة الدار البيضاء، تحكي إحدى المربيات لـ «الاتحاد الاشتراكي» قائلة «هؤلاء الأطفال لا ينقصهم الطعام أو المأوى، ما ينقصهم هو الحضن. هناك ليالٍ يبكون فيها دون سبب، وربما السبب هو غياب من يسمعهم أو يناديهم بكلمة «ولدي» أو «بنتي»، مضيفة «بعضهم يبلغ سنّ العاشرة دون أن يُزار ولو مرة واحدة من أقرباء، فهم منسيون تماما. وحتى إن خرجوا من المؤسسة عند البلوغ، يواجهون مجتمعا لا يرحمهم، يرفض تشغيلهم أو كراء سكن لهم فقط لأن وثائقهم تكشف أنهم «مجهولو النسب».
شهادة هاته السيدة التي تشتغل في وسط المنظومة التي نتحدث عنها، زكّاها تصريح «خليل»، شاب يبلغ من العمر 30 سنة، ترعرع في مؤسسة خيرية، ويعيش اليوم على هامش المجتمع، بلا اسم حقيقي، بلا هوية قانونية، وبحمل ثقيل من الأسئلة. تحدث ضيفنا قائلا «أبحث عن أمي منذ سنوات، لا أريد أن ألومها، فقط أريد أن أفهم… لماذا تخلت عني؟ هذا السؤال يحرقني منذ كنت طفلا. أحتاج فقط جوابًا يشفي الغليل، لا أكثر. لا أستطيع أن أعيش حياة عادية، فأنا ابن الخيرية، لا اسم لي، لا أصل لي، مجرد رقم في وثيقة رمادية».
كلمات «خليل» كانت تلخص وجع أجيال كاملة من الأطفال الذين يدفعون ثمن مجتمع يقسو على الضعفاء، وقانون لم يُطوَّر لحمايتهم بشكل فعلي، فالمعاناة لا تتوقف عند حدود الطفولة، بل تستمر معهم في الشباب، وتحرمهم من حقوق عديدة، لعلّ أوّلها الانتماء البسيط واسم عائلي واضح.
إن قضية الأطفال المتخلى عنهم تتجاوز الجانب الإنساني، إلى سؤال كبير حول العدالة الاجتماعية والكرامة، وحول مدى استعداد المجتمع المغربي لتجاوز الأحكام المسبقة، واحتضان كل إنسان وُلد على هذه الأرض، مهما كانت خلفيته. ربما لا يمكن منع كل حالات التخلي، لكن يمكن على الأقل أن نضمن لهؤلاء الأطفال حقهم في هوية، فقضية الأطفال المتخلى عنهم تتجاوز الجانب الإنساني، إلى سؤال كبير حول العدالة الاجتماعية والكرامة، وحول مدى استعداد المجتمع المغربي لتجاوز الأحكام المسبقة، واحتضان كل إنسان وُلد على هذه الأرض، مهما كانت خلفيته.
ولمواجهة هذا الواقع المؤلم، يرى العديد من الحقوقيين والفاعلين المدنيين أن الحلول تبدأ بتعديل القوانين المتعلقة بالنسب، بما يضمن للأطفال المتخلى عنهم هوية مدنية كاملة دون شرط اعتراف الأب، إلى جانب تعزيز الحماية القانونية والاجتماعية للأمهات العازبات، وتشجيع نظام الكفالة والتبني الداخلي بشروط مرنة تحفظ كرامة الطفل وتدمجه في أسرة طبيعية. كما تبقى الحاجة ملحّة لحملات توعية مجتمعية لكسر وصمة العار، ودعم مراكز الرعاية بالموارد البشرية والمادية اللازمة لتأهيل هؤلاء الأطفال وتسهيل اندماجهم في المجتمع.
إن الطفل المتخلى عنه لم يخطئ، ولم يختر مصيره، ومجتمع لا يحمي أضعف حلقاته هو في حاجة إلى مراجعة ذاته، فكل طفل، أيا كانت ظروف ولادته، يستحق أن يُنادى باسمه، أن يحلم، وأن يعيش بكرامة في وطن ينتمي إليه، وفي حضن لا يشعر أصحابه بأن هؤلاء الأطفال عبء أو خطأ يجب إخفاؤه.