الجريدة
في مدينةٍ صاخبةٍ تزدحم بالوجوه والحكايات، كان هناك رجلٌ غريبُ الأطوار يدعى «الرجل الجريدة». كان جسده أشبه بجريدةٍ مطويةٍ بحرفيةٍ، كلّ شبرٍ منه مليءٌ بالكلمات والعناوين الصارخة. كان يجول الشوارع، يعرض نفسه ببرودٍ كمنصةٍ مفتوحةٍ لكل العيون.
كان الناس يتبعونه بشغف، يقرأون منه العناوين العريضة، المقالات الطريفة، والقصص المثيرة. بعضهم كانوا يهمسون بأعجوبة ما قرأوا، وآخرون كانوا يضحكون ساخرين أو يغضبون مما كُتب عليه. كان هو لا يكترث، يتركهم يتلذذون بكلماته أو يتجادلون بسببها، ويواصل سيره كأنه لا يعنيه شيء.
لكن مع الأيام، تحول هذا التجمهر حوله إلى عبءٍ ثقيل. أصبح الناس يتبعونه في كل مكان، يتوقفون عند كل زاوية، يحدقون فيه بفضولٍ لا يرحم. بات يسمع همساتهم الحادة وتعليقاتهم الجارحة التي اخترقت روحه مثل السهام.
وذات يوم، بينما كان يجول في السوق كعادته، ضاق صدره. شعر بثقل نظراتهم وضجيج أصواتهم التي لا تهدأ. فجأة، ومن دون سابق إنذار، هرول هاربًا، متجاوزًا الأزقة والميادين، بينما الناس يركضون خلفه، يحاولون الإمساك به لقراءة المزيد.
لكنه استمر في الهرب، حتى اختفى عن الأنظار تمامًا. وحين عاد الهدوء إلى المدينة، وجد الناس أن الكلمات والعناوين التي كانت تملأ جسده لم تختفِ. بل ظلت تتجول في الشوارع وحدها، تلتصق بالجدران، تنتشر في الهواء، وتدخل عقول المارة كأنها ظلال الرجل الجريدة.
أما هو، فلم يعد يراه أحد. قيل إنه اختبأ في مكانٍ لا تصل إليه أعين البشر، حيث الكلمات لا تحمل ثقل المعنى، والعناوين لا تحتاج إلى جمهور. لكن ظله، ذلك الذي ملأ المدينة بالكلمات، ظل حاضرًا، يروي قصة رجلٍ صار جريدة، ثم قرر أن يتركها لتسير وحدها.
الصوت
في قرية صغيرة تحتضنها الجبال وتغني الطيور لها صباحًا ومساءً، كانت تعيش فتاة جميلة تُدعى «ليلى»، معروفة بجمالها الساحر وبصوتها العذب الذي كان يُزين أمسيات القرية. كانت ليلى تجمع بين براءة الريف وقوة الروح، وكانت دائمًا تقود بنات القرية في الأغاني التي تمزج الفرح والحزن، وتحكي عن أحلامهن وأوجاعهن.
في أحد المساءات الهادئة، خرجت ليلى مع رفيقاتها كعادتهن إلى الغابة القريبة لجمع الأعشاب البرية والزهور. وبينما كنّ يعُدن مع ضوء القمر، غنت ليلى أغنية حزينة بقدر ما كانت جميلة، كأنها تنبأت بشيء قادم. انتهت الأغنية بصدى عميق بين الجبال، وعندما وصلن إلى مشارف القرية، أدركت الفتيات أن ليلى ليست بينهن.
بدأت رفيقاتها في البحث عنها. نادين باسمها مرارًا، ولكن دون جدوى. توسعت دائرة البحث إلى الغابة والجداول، ولكن لم يجدوا أي أثر لها. عادت الفتيات إلى القرية بخبر اختفائها، فخيم الحزن على الجميع، وتحولت الأغاني التي كانت تملأ السماء بالأمل إلى نحيب ودموع.
مرت الأيام، ولم يظهر أي أثر لليلى. البعض قال إنها اختُطفت من قِبل كائن أسطوري كان يغار من جمالها وصوتها. آخرون قالوا إنها تبعت صوتًا غريبًا في الغابة وقادها إلى عالم آخر. لكن الجدات في القرية كانت لديهن قصة أخرى؛ قلن إن ليلى لم تختفِ، بل أصبحت روحًا تحرس القرية. ففي ليالي القمر الكامل، يسمع أهل القرية صوتًا عذبًا يترنم بأغنيتها الأخيرة، وكأن ليلى تواسيهم من بعيد.
ومع مرور الزمن، أصبحت قصة ليلى أسطورة تُروى لكل الأجيال، وأصبح صوتها الذي يُسمع بين الجبال رمزًا للأمل والحب المفقودين، وذكرى خالدة في قلوب أبناء القرية.