قضى طفولته بالرباط، ووالده كان صديقا للملك محمد الخامس .. الفنان اللبناني جبران طرزي يفتح إرث الأجداد على حياة أخرى متجددة

 

بعث لنا، مارك طرزي، ابن الفنان الهندسي التجريدي اللبناني الراحل «جبران طرزي» بهذا المقال، وفاء لروح والده وجده ألفريد طرزي اللذين عاشا في المغرب وتحديدا في الرباط في النصف الأول من القرن الماضي، ورغبة في  استعادة الصداقات الثقافية لأسرة آل الطرزي مع المغرب.

بروح الأسلاف
وببصيرة المبدعين

هناك الكثير من المعاني الجوهرية في تجربة الفنان اللبناني جبران طرزي (1944- 2010) والذي بقي مجهولا في مغربنا الكبير، وذلك رغم ما كان لأرثه الفني من أواصر تمس جزءا مهما من موروثنا البصري والحضاري . فإلى جانب ما تكتنزه تجربته من معان جمالية وروحية ، فإنها تلخص أيضا مفهوم التأصيل الذي تعكسه معاني هذه القصة وهي من الأدب الإفريقي التقليدي ، والتي تروي حكاية شاب عاد من الحرب بساق واحدة واكتشف ما أصبح عليه حال والده المسن بعد أن سلب منه أحدهم كل ما يملك، عدا كوخ من القش وعصا هي كل ما تبقى من إرث الأجداد. قرر المحارب العائد مواجهة اللص، لأجل ذلك طلب من حداد القرية أن يصنع له ساقا من الحديد يعوض بها ساقه المفقودة ، غير أن الأمر لم ينجح و شعر بالآم كبيرة إلى حد النزيف، فطلب من نجار القرية أن يصنع له ساقا خشبية ولم ينجح الأمر أيضا، حتى أن شعورا تملكه بأن كل مسام جسده اجتمعت وتكتلت لطرد تلك الساق الخشبية وفي يوم المواجهة والتي حضرها كل سكان القرية ، وقف المحارب أمام خصمه بساقه العرجاء وهناك سمع نداء والده المسن وهو يشق الجموع، ويهبه العصا التي يتوكأ عليها .تقول الحكاية الإفريقية بأن المحارب الأعرج انتصر على خصمه بفضل تلك العصا، والتي لم تكن مجرد قطعة من الخشب بل روح الأسلاف وطاقتهم الملهمة .
ينحدر جبران الطرزي من أسلاف توارثوا عبر الأجيال، وتحديدا منذ سنة 1860 ، أسرار الحرف الشرقية، مثل الدواوين الشرقية والجدران والسقوف الدمشقية الخشبية بزخارفها النباتية النافرة وأشكالها الهندسية ، وقد وصل صيت هذه العائلة الي الذروة عندما قام ديمتري طرزي، وهو جد جبران، بتزيين وزخرفة العديد من القصور والدور بأربع مدن عربية وهي بيروت ودمشق والقدس والقاهرة، جمع فيها الجد بين أصالة الصناعة وروح الإضافة .
ضمنيا لم يكن جبران طرزي، غير ذلك السليل المنذور لحفظ واستئناف صناعة الأجداد ، ذلك أن تلك الصنائع التقليدية تستمد روح نقائها واستمراريتها من ذات البيئة التي نشأت ضمنها ، حيث يبدو مفهوم التوريث فعالا في نقل المعارف والأسرار، وذلك لخضوعه لمنهج تكويني ملتبس بتلك القداسة لدى المتصوفة والتي تربط الشيخ / المعلم بالمريد / الابن .
لقد شكل هذا الانتماء ببعديه الرمزي والمادي والذي ورثه جبران طرزي عن عائلته، بعدا أساسيا في تجربته كفنان والذي انتبه الى جملة المتغيرات التي أصبحت تهدد البنى التقليدية التي نشأ ضمنها وصنعت صيت عائلته، ذلك أن الفنان كان قد ولد في ذروة ما كان يعيشه العالم أنذاك من حرب كونية ثانية، فرضت خلالها الدول الصناعية الكبرى نمط إنتاجها بوسائله التقنية والصناعية ذات المردودية الفائقة على مستوى الوفرة والتكلفة، بما ساهم في تفكيك أو في ضمور تلك البنى التقليدية وصنائعها داخل المستعمرات.
من البين أن جبران طرزي كان قد امتلك ذهنيا، وبالغريزة والفطنة أيضا ، حالة الوعي والانتباه لجملة تلك المتغيرات العاصفة والتي عرفتها المنطقة العربية عامة وجعلتها مهددة بفقدان بناها التقليدية لتستقبل في ذات الوقت أفق الحداثة ، والتي مثل الفن كممارسة حرة وفردانية جزءا من بشارتها .
ضمن هذا الخضم كان جبران طرزي، ملتبسا بروح بيت دمشقي، في هندسته القائمة علي الانفتاح صوب الداخل، حيث اعتبر أن التراث الحرفي الشرقي قادر على أن يكون الأرضية الخصبة لمسار إبداعي حداثي ، لو استعاد جذوره الفكرية و الروحية المؤسسة له. فالجذور وفق جبران طرزي مهمة ليس لمعرفة الحضارة فقط ، بل لرسم نمط من المقاومة، حيث إننا نجده يقول في هذا الباب « مصير جذورنا الشرقية ليس العفن والفساد، وإنما تغذية الشجرة التي ستعطي ثمارا غير متوقعة لمقاومة الهيمنة .. هيمنة الثقافات الوافدة«.
لا يمكن النظر لذلك الإرث الحرفي التقليدي العائلي، في مسار تجربة جبران طرزي ، كمجرد مكتسب يدوي، بقدر ما كان الخميرة التي شكلت استعداداته الفطرية والمكتسبة والأخرى الإرادية التي واجه بها أسئلة تلك المتغيرات العاصفة، أي أن ذلك الموروث قد شكل ، و فق ما يسميه بيار بورديو في مفهومه حول الهابيتوس، البوصلة الخفية في وعي الفرد والتي يهتدي من خلالها إلى إدراك العالم الذي يحيط به ، حيث إن مفهوم الهابيتوس مرادف للسمت أو السجية التي ترسم مجموع الاستعدادات الفطرية والمكتسبة والمتوارثة التي تعبر عن فاعلية الفرد .
استعادة تجربة جبران طرزي تقودنا في باب آخر إلى سؤال أساسي حول الكيفية أو الذهنية التي تأمل من خلالها تلك التقاليد الحرفية التي ترعرع ونشأ ضمنها ومثلت لديه ثقلا مزدوجا ، ذلك أنها موروث عائلي وحضاري في ذات الوقت . كيف حول ذلك الحمل من وديعة منذورة للحفظ و التكرار، ضمن وظيفتها ومحيطها المخصوص ، الى غنيمة منذورة لحياة أخرى متجددة . الظاهر أن الاجابة عن هذا السؤال تكمن في شخصية جبران طرزي وثقافته التي امتلكت رؤية متجذرة في بيئتها ومفتوحة في ذات الوقت على الكوني . من بين أهم تمثلات تلك الرؤية قدرتها على تمثل حدود الحرفة . والحدود هنا تخص الأنموذج الذي على أساسه تقوم كل الصنائع والحرف، من خلال التكرار والاستنساخ حيث قام جبران طرزي بتجاوز ذلك الأنموذج عبر البحث عن الجوهري الذي يخفيه من معاني روحية وجمالية . هنا فإن مفهوم التجاوز يوازي مفهوم النسيان عند جيل دولوز والذي تساعدنا أطروحته حول الاختلاف والتكرار Différence et répétition في فهم مسارات تجربة جبران طرزي ، فحسب دولوز « اذا كانت كلّ ذاكرة تحتاج دوما إلى عادات معيّنة، إلى «أنا» صغيرة يحدوها الطمع في العثور على علاقة «عامة» بهوية ما تخلّصها من التكرار الزائف للجزئيات، فإنّ النسيان قوة تكرار خلاّقة لأنّها لا تكرّر إلاّ ما تريد أي ما تنتخب وتنتقي من أشكال الإرادة ومن أشكال الاقتدار. «
ليس الاختلاف بين الحرفة وبين الفن في تجربة جبران طرزي بالاختلاف التفاضلي الذي يؤدي الى حالة من اللقاطة الحضارية ، بقدر ما كان علاقة مد وجزر بين الانتماء والتحرر وبين التذكر والنسيان، بين المهارة والإبداع ، وبين الجمعي و الفردي . وهو المعني الذي لخصه أيضا دولوز في أطروحته « ليست الصلة بين الاختلاف و التكرار مثلما هي بين متجانس ولا متجانس ، متساو ولامتساو ، متشابه ولا متشابه، إنما هي في تجاوز هذا التعارض، لصالح نقد عادة ما يتمثل من خلاله الفكر الفلسفي الاختلاف كاختلاف بين شيئين، والتكرار كتكرار حالات ومرات، ولكن في الحالتين ينقص الاختلاف والتكرار معا لأنه يتم استيعابهما عن طريق موقف أصلي من الهوية .. الاختلاف يعني الابتعاد عن الهوية المفترضة، والتكرار يعني إعادة إنتاج نسخة أو نموذج . ويهدف نقد فكر التمثل الى إزاحته من أجل بلوغ اختلاف إيجابي وتأكيدي ، وتكرار مبدع بعيد عن المظاهر السطحية والمجردة «.

القائم النائم

هندسيا يمتلك المربع جميع خاصيات متوازي الأضلاع وجميع خاصيات المستطيل وكذلك جميع خاصيات المعين : خاصية القطرين وخاصية الأضلاع المتقابلة  خاصية الزوايا. هذه الخصوبة الهندسية القابلة للتوليد اللامتناهي للأشكال، تعكس دلالة المربع كرمز للتوازن والمنطق والنظام ، كما تشير أضلاعه الأربعة الى العناصر المادية للكون وهي التراب والهواء والماء والنار. وفق هذه الخصائص الدلالية للمربع ، تفتح تجربة جبران طرزي المجال للبصر للتبصر، فمن خلال الشكل الواحد والقياس الواحد للمربع، في توالده وتكراره وتتابعه وتماثله، يتشكل بصريا وإيقاعيا التماهي مع حركة الكون ووحدة الوجود، حيث إن الجزء من الكون يشتمل على خصائص الوحدة. فالكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة على حد قول ابن الفارض الذي يرى أيضا أن الكثرة ترتد الى وحدة ولا ندرك الوحدة بالمقابل إلا بالكثرة ، فالصور التي تتجلى أمام أعيننا صور متعددة لواحد ولا وجود للمتعينات في حد ذاتها، بل بالواحد . هو مفهوم يماثل مفهوم «الجوهر الفرد « كما أورده ماسينيون في مؤلفه Les méthodes de realisation artistique chez les peuples de i’islam ومعناه أن الكل يتجزأ إلى الجزء الذي لا يتجزأ، و أن إيجاده يتوقف على واجب الوجود بذاته. ولابد من الإشارة هنا إلى أن مفهوم « الجوهر الفرد» يماثل بدوره مفهوم الذرة و «الجزء الذي لا يتجزأ « في فلسفة ديمقريطوس اليونانية .
ضمن هذا المنحى الصوفي، قامت أعمال جبران طرزي على عدة أسس حرفية وإبداعية مترابطة يتشكل من خلالها الأسلوب وهو ما استعرضه مؤلفه الصادر تحت عنوان « تنويعات هندسية « والذي قدم فيه جردا لأبحاثه الممتدة من سنة 1988 الى غاية 2003 و التي تخص موضوع «القائم النائم «، والذي هو عبارة عن وحدة تأليفية يكون فيها مستطيلان متلاصقان على شكل أفقي، واثنان على شكل عمودي. يترابطان عبر زاوية قائمة حول مربع مركزي، ليولد منهما مربع جديد. قدمها جميعا عبر سلسلة من التراكيب المتنوعة والتي ترسم تنويعات من الوحدات للأشكال المستطيلة والمربعات غير المتساوية والتكوينات المشتقة من القطر المائل والمربعات التوائم، والأخرى المتدرجة ومن المستطيلات النائمة . ضمن هذا الأثر المبحثي الصميم يكشف جبران الطرزي في مؤلفه المذكور عن الأواصر التي ربطت فنه بروح الموسيقي والشعر، التوليد والتناسب والبناء الإيقاعي الذي يكسبه اللون ترسخا والذي يتمظهر داخل الحيز البنائي الهندسي كنغمات بصرية أفقية وعمودية ومائلة، وضمن مسارات متنوعة ينصهر فيها اللون بالشكل. وفق هذا التمشي الذي يجعل من البناء الهندسي بنية موسيقية ، تعيدنا آثار جبران طرزي الى « إخوان الصفاء « الذين اعتبروا بأن علم الموسيقي، بوصفه نظرا وتقعيدا للأصوات والنغمات ( المقامات ) والإيقاعات ، استند عند تأسيسه المعرفي الى الرياضيات، حيث بحث إخوان الصفاء في ماهية الأنغام باعتبارها أصواتا كامنة في الطبيعة من ناحية، ومتناغمة مع حركة النجوم من ناحية أخرى .لقد اهتم جبران طرزي بهذا البعد الحركي والموسيقي في أعماله وقد وصل ذروة هذا الاهتمام الى إنجازه لعمل تركيبي يلخص تجربته الفريدة، وهو متكون من 25 مرآة، كل واحدة منها عبارة عن بستان، قابلة جميعها لآلية من التبادلات وفق 24 طريقة مختلفة .
ينحدر أغلب اللبنانيين ممن هاجروا نحو المغرب الأقصى خلال النصف الأول من القرن العشرين، من بلدة دير القمر في قضاء الشوف بجبل لبنان، والمدرجة منذ سنة 1945 بلائحة التراث العالمي بسبب ما تزخر به شواهد ومعالم أثرية شيدت أثناء تعاقب حكم أمراء جبل لبنان . خلال إقامتهم بالمغرب عملوا كمترجمين في فترة الهيمنة الفرنسية . ضمن هذه الموجة من المهاجرين اللبنانيين، كان هناك ألفريد طرزي والد الفنان جبران طرزي والذي قرر الهجرة نحو المغرب الأقصى مدفوعا برغبة تجاوز أزمة مادية عاشتها عائلته . وعكس بقية المهاجرين الشاميين امتهن الجد تجارة التحف ببعث محل بشارع المخزن بمدينة الرباط ، كان يقدم أصنافا متعددة من المنجزات الحرفية البديعة التي توارثت العائلة على حفظ أسرارها . ومع تنامي أرباحه، قام ببناء فندقين بكل من مدينة الرباط والدار البيضاء وحملا نفس الاسم « سان جورج « وقد كان لبعث هذين الفندقين أثره في الصحافة الصادرة أنذاك بالمغرب الأقصي ، حيث اعتبرته صحيفة L’echo du Maroc الصادرة بتاريخ 11 جويلية 1949 لبنة أساسية في تطوير السياحة بالمغرب، وهو نفس ما ذهبت إليه صحيفة La vie Mrocaine في مقالها الصادر بتاريخ 15 مارس 1953 والخاص بتدشين نزل « سان جورج « بالدار البيضاء . تواصلت إقامة ألفريد طرزي رفقة عائلته المصغرة لسنوات بالمغرب الأقصى تمكن خلالها من ربط علاقات قوية، استمرت حتى بعد عودته الى لبنان، حيث يعتبر نزل الكزار Hôtel Alcazar و الذي شيده ببيروت العنوان الأمثل لإقامة الوفود الرسمية المغربية بما في ذلك جلالة الملك محمد الخامس، رحمه الله ، والذي ربطته علاقة متينة بألفريد طرزي .
يمكننا الاستفاضة بعديد المعلومات التاريخية عن تلك العلاقة التي ربطت الأب ألفريد طرزي بالمغرب الأقصى ، غير أن المجال هنا يخص بالأساس سيرة وفن ابنه جبران طرزي والذي رافق والده في هجرته نحو المغرب الأقصى ، كما بقية أفراد العائلة الصغيرة . ففي السنوات الفاصلة بين 1952 و1957 درس جبران طرزي في مدرسة الإخوان المسيحيين بالرباط ، ليدرس بعدها الحقوق وفي اعتقادنا فإن تلك الإقامة لسنوات بالمغرب الأقصى ، والتي خلد وقائع منها في روايته «معصرة الزيتون « ، قد تركت أثرها في وعي جبران الطرزي، ذلك أنها بقدر ما لخصت له رحلة الصنائع التي توارثتها عائلته وماثلة وصامدة في فنون الزليج و الأرابيسك و فنون النقش والترصيع الذي يطلق عليه في إسبانيا اسم لداماسكينادو (damasquinado) ، نسبة لأصله الدمشقي عبر مختلف المدن المغربية ، إلا أنها في ذات الوقت مثلت لديه لحظة فارقة يلخصها وجود الأب كطائر لم يهجر فقط عشه، أي مسقط رأسه، بل هجر أيضا تلك الغابة، أي المشغل بأدواته وحرفييه وتقاليده العريقة والتي مثلت الأغصان الذي منها شيد ذلك العش.
نذكر هذه المحطة في مسيرة الفنان، بغاية الإشارة أيضا إلى تلك الجغرافيا الممتدة والمتصلة التي تشكل حوض المتوسط وما استقر بين ضفافه أو ما أنتجه عبر تاريخه الطويل من فلسفات وروحانيات، كان من أهمها تلك الدلالة الفلسفية والروحية التي شكلت جمالية المربع كمفردة وكحامل وكحاضن لايزال مرئيا و قائما إلى اليوم في معمارنا القديم . لذلك فإن أعمال جبران طرزي لا تبدو غريبة عن ثقافتنا البصرية، فهي تذكرنا بما يوجد، كما بما يمكن أن يوجد أو يظهر، لو تدفق الزمن من الماضي إلى الحاضر كما هو الحال في أعمال جبران طرزي .


الكاتب : عمر الغدامسي

  

بتاريخ : 07/02/2024