قناع الغرب.. البروتوكولات المضللة 01 الضمير الغائب وأوهام الكرم!

في رواية «مشكلة سبينوزا» لإرفين د. يالوم، نقرأ على ما يلي: «التفت هتلر إلى ألفريد، وقال: «آه باعتبارك صحفيا، أرجو أن توافقني الرأي بأن الحقيقة هي كل ما يصدقه عامة الناس….»..». لا تهم الحقيقة «الواقعية» ما دامت الحقيقة تعتمد على نحو كلي على الأداء الإعلامي، لأن هذا هو ما يؤثر بالفعل في تكوين الصورة العامة للقوة المهيمنة. ولهذا يستثمر الغرب ثروة هائلة لبناء قوته الإعلامية وإنشاء وسائل إعلامية تحقق أهداف سياساتها الخارجية وتؤثر في اتجاهات الجماهير في دول العالم.

 

لم يكتف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يريد أن يريد يحتكر الغرب بكامله، بالتوظيف المنهجي لعدة نظريات إعلامية لتحقيق الهيمنة الأمريكية والسيطرة على الرأي العام واستمالته، مثل نظرية التأطير الإعلامي» أو «نظرية تحديد الأجندة» أو «نظرية الصدمة» أو «نظرية التأثير المباشر» أو «التواصل العاطفي»، بل يجمع ترامب بين كل هذه النظريات للوصول إلى مراميه المعلنة وغير المعلنة، غير عابئ بالانتقادات التي توجه إليه، لأنه يدرك أن «قوة الإعلام» هي التي تصنع الحقيقة، وليس قوة العقل والمنطق والحوار والمواثيق والاتفاقات والعهود الدولية.
ولعل هذا ما دفع ترامب بالفعل إلى التحالف مع مدراء منصات التواصل الاجتماعي، وعلى رأسهم إيلون ميسك (وزير الكفاءة الحكومية الحالي)، وفتح باب البيت الأبيض أمام المؤثرين والمدونين ومقدمي البودكاست كجزء من استراتيجية جديدة تشمل أصوات وسائل الإعلام غير التقليدية، إذ أعلنت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت، في أول مؤتمر صحفي لها، أن غرفة الإحاطات ستفتح أمام «أصوات الإعلام الجديدة»، بما في ذلك المؤثرون على وسائل التواصل الاجتماعي وأصحاب المحتوى والمدونون ومقدمو البودكاست والصحفيون المستقلون.
هذا هو النهج الإعلامي الثوري» الذي ينهجه «رجل الغرب الأول»، لتوجيه النقاش الإعلامي نحو القضايا التي «يصطنعها»، سواء عبر تغريداته أو تصريحاته المثيرة، بل من خلال طرح مواضيع مدهشة وغريبة وغير متوقعة ومثيرة للجدل، مما يخلق حالة من الصدمة تدفع وسائل الإعلام للتفاعل معها بشكل مكثف، ويجبر الإعلام على جعله المصدر الأساسي للأخبار (البحث عن الهيمنة والأرباح وتحويل باقي العالم إلى مجرد أسواق)، مما يفضي بشكل دائم إلى تحويل الانتباه عن القضايا الخطيرة التي لا يرغب في تسليط الضوء عليها، بل تقديمه بوصفه الوجه الأخلاقي الأكثر صدقية وموثوقية للغرب.
ما يقوم به ترامب، حاليا، هو في العمق ترجمة فعلية (وبالمكشوف) لما ظلت تفعله الإمبريالية الغربية. وما التحالف مع الرئيس التنفيذي لشركة تسلا وSpaceX، إلا طريقة أخرى من طرق «خلق الحقيقة»، ليس باعتبارها قيمة ثابتة، بل بوصفها «الطريق الصحيح لتجنب الإفلاس»، كما يقول الرئيس الأمريكي، مما يضعنا في مواجهة مع «أقنعة الغرب» وبرتوكولات الحقيقة الغربية التي تتغذى على الحجب والتضليل، وعلى رأسها الالتزام بحقوق الإنسان والمساعدات الدولية..
ينطلق كيشور محبوباتي، وزير خارجية سنغافورة السابق وعميد كلية لي كوان يو للسياسة العامة التابعة لجامعة سنغافورة الوطنية، من فرضية أساسية: «هل ما زال الغرب يمثلُ حضارة متفوقة أخلاقيا»؟
يذهب محبوباتي إلى أن هذه الفرضية تتحتم مواجهتها بشكل مباشر إذا أردنا إقناع الغرب بالترجل عن «حصانه العالي» والاعتراف بأنه يسير على الأرض الأخلاقية نفسها مثل باقي العالم. بل أكثر من ذلك- وهذا ما تؤكده «الحقيقة الواقعية» أن الغرب، حتى في أشد تمظهراته عقلانية، لا يخفي انتقائيته كلما تعلق الأمر بالأخلاق التي يدافع عنها. فالغرب «قوة أخلاقية» بهذا الخصوص كلما تعلق الأمر بمصالحه السياسية والاقتصادية، أو بإبراز أنه «قوة معطاء» على المسرح الدولي، وأنه هو «ضمير» العالم ووجهه الحقوقي والأخلاقي. والحال أن هذا الغرب لا يتردد في المتاجرة بآلام الشعوب، كما وقع في غزة، إذ اتضح أن إبادة الفلسطينيين تتم بمباركة من الولايات المتحدة التي لم تكتف بتقديم الأموال والسلاح والمقاتلين، بل كانت تغطي جميع الأعمال القذرة لإسرائيل بإشهار «الفيتو» أمام الحقيقة، مما يضع الغرب، أو على الأقل الحكومات الغربية (مع بعض الاستثناءات الطفيفة)، في مواجهة مع صورته الحقيقية، القريبة من النفاق، البعيدة كل البعد عن أسطورة الغرب الأخلاقي. ذلك أن «إسرائيل»، التي اخترعها الغرب الصهيوني تحت غطاء تاريخي وديني لحل ما كان يعرف بـ «المسألة اليهودية»، تحتقر الأمم المتحدة (الضمير الذي اخترعه الغرب وفرضه على مستعمراته) وتنظر إليها بوصفها «مهزلة حقيرة». بل إن هذا العداء للأمم المتحدة ولمشروعية أي انتقاد خارجي لسياساتها، وخاصة في أوقات الحرب، يعود إلى زمن بعيد يرجع إلى أصولها رغم أن «ميلادها» كدولة تم بقرار أممي (القرار 181 الذي يقسم فلسطين إلى دولتين: «يهودية» و»عربية»). ومن أمثلة ذلك أن المخابرات الإسرائيلية اغتالت، بعد أربعة أشهر من إنشاء دولة إسرائيل، الكونت السويدي فولك برنادوت، وسيط الأمم المتحدة، في مدينة القدس، لأنه كان يعيق الطموحات الإسرائيلية بـ»خطة سلام» لم تكن تريدها إسرائيل. وقد قُتل بالرصاص على يد أربعة رجال يرتدون الزي العسكري، وقيل حينها إن القتلة ينتمون إلى جماعة «شتيرن»، وهي حركة قومية متطرفة مسلحة تحتلّ اليوم مكانة بارزة في متحف الجيش الإسرائيلي.
وفي وقت أقرب إلى الآن، في عام 1996، وخلال عملية ضد حزب الله، قصفت القوات الجوية الإسرائيلية معسكرًا للقبعات الزرق في بلدة قانا حيث لجأ السكان، مما أسفر عن مقتل 106 مدنيًا. وعلى مدى 46 عاماً، من بين كل هيئات الأمم المتحدة المماثلة، تكبدت اليونيفيل أكبر خسائر بشرية، إذ سجلت إلى غاية أبريل 2004، مقتل 334 من أفرادها، معظمهم في غارات إسرائيلية. وهناك هيئة أخرى تتعرض لضغوط دائمة من تل أبيب منذ سنوات عديدة جداً، وهي مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (أوتشا)، وهي الوكالة المحايدة الوحيدة التي تسجّل الأعمال غير القانونية (جرائم، طرد، احتلال، تدمير، إلخ) التي تُرتكب في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ومع ذلك، تظل إسرائيل «خارج العقاب» مستفيدة من الحق المزعوم في الدفاع عن النفس، وفي حقها التاريخي والديني والأسطوري في الوجود، وأن القتل والتدمير ضريبتان حربيتان ملازمتان للحروب.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 01/03/2025