في رواية «مشكلة سبينوزا» لإرفين د. يالوم، نقرأ على ما يلي: «التفت هتلر إلى ألفريد، وقال: «آه باعتبارك صحفيا، أرجو أن توافقني الرأي بأن الحقيقة هي كل ما يصدقه عامة الناس….»..». لا تهم الحقيقة «الواقعية» ما دامت الحقيقة تعتمد على نحو كلي على الأداء الإعلامي، لأن هذا هو ما يؤثر بالفعل في تكوين الصورة العامة للقوة المهيمنة. ولهذا يستثمر الغرب ثروة هائلة لبناء قوته الإعلامية وإنشاء وسائل إعلامية تحقق أهداف سياساتها الخارجية وتؤثر في اتجاهات الجماهير في دول العالم.
يرى الأكاديمي آلاستَير بونيت في فصل الأول من كتابه «فكرة الغرب: الثقافة والسياسة والتاريخ» الذي ترجمه أحمد مغربي: (من الأبيض إلى «الغربي») أن فكرة الغرب نشأت من فكرة أسبق هي «فكرة البياض» التي توقف استخدامها في ثلاثينيات القرن العشرين، حين حلّت «القيم الغربية» محلّ «خطاب البياض» الذي راحت محدوديته الشديدة تتكشف خلال ما يدعوه بونيت «أزمة البياض»، وهي فترة شهدت كثرة الأعمال التي تحتفي بفضائل البياض وتحذّر من المخاطر التي تواجهها. لكن الافتراضات العرقية المبتذلة في هذه الأدبيات لم تثبتها الوقائع على الأرض، ما أحدث توترًا شديدًا ثمّ تدهورًا في خطاب التفوق الأبيض، علاوة على أن جمع الأعراق المتباينة تحت مقولة «البياض» ما كان لينفع في الدفاع عن قضية «وحدة البيض».
وينقل الكتاب الذي أصدره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أن متناقضات أخرى عديدة عملت على بذر الاضطراب في فكرة «وحدة البيض»؛ إذ كشفت الحرب العالمية الأولى والانقسامات الطبقية الشديدة التي قتل فيها الأخوة بعضهم بعضًا قصور البياض كمقولة من مقولات التضامن الاجتماعي. وتبيّن أن الهوية البيضاء ليس لها تاريخها المستقل. كما ثبت أن فكرة الغرب، في المقابل، مرنة وقابلة للاستخدام أكثر كثيرًا، فضلًا عن كونها أبعد مدى ولا تبدي من المركزية العرقية إلا ما هو حاذق ورهيف.
ولاحظ بونيت أن امتياز البياض لم ينته بل تغيّرت طبيعته فحسب، وأضحى أشدّ خفاءً وأقلّ اعترافًا به. وإذا ما كانت فكرة الغرب قد ساعدت في زوال بعض خصائص المذهب القائل بالتفوّق الأبيض، فإنها كانت تنطوي هي ذاتها على مشكلاتها الخاصة وتوتراتها، إذ تبقى فكرة مأزومة تواجه خطر الانحلال.
ورصد بونيت في الفصل الثاني فكرة الغرب لدى مجموعة من المفكرين البارزين، ولدى تيارات فكرية بارزة من خارج الغرب. فتحدث عن الكيفية التي تعامل بها البلاشفة مع فكرة «الغرب»، بدءًا من ربطه بالحداثة الاشتراكية والثورة الاشتراكية التي يُنتظر أن تأتي منه وصولًا إلى اعتباره عدو الدولة السوفياتية الوليدة. بينما خصص الفصل الثالث (وداعًا آسيا، غرب المُغَرْبِنين: فوكوزاوا وغوكالب) لرصد العلاقة بين آسيا والغرب، مستكشفًا مواقف دعاة التغريب الشرقيين في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ويتناول أعمال اثنين من المفكرين الأساسيَين، هما الياباني فوكوزاوا يوكيتشي والتركي ضياء غوكالب، وجدا أن القطع مع آسيا والوصل مع الغرب هما ما يمكن أن يعطي بلديهما موقعًا مميّزًا ومتفوّقًا، على ألّا يُفهَم ذلك بمعنى الالتحاق بالغرب بل بمعنى امتلاك أدواته الفكريّة والعسكريّة والاقتصادية التي لا بدّ أن تساعد على الاستقلال وامتلاك مستقبل قومي مستقل.
أمّا في الفصل الرابع، غرب بلا روح/آسيا الروحانيّة:غرب طاغور، فيقدم بونيت محاولةً تتوخّى إظهار أصالة الروحانية الآسيوية وكونها ليست مجرد ارتكاس عدائي تجاه المادية الغربية والهوية الغربية عمومًا.
وفي الفصل الخامس، ينتقل الكاتب من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى أواخره، ليرصد ما اعترى الصور النمطية عن الغرب من اختلاف شديد في الثنائية الضدية التي تضع الغرب مقابل آسيا. إذ لم يعد الغرب لدى المدافعين عن القيم الآسيوية محلًّا للعقلانية والصناعية بل للكسل والفوضى الاجتماعية، بخلاف آسيا الكفوءة التي تحسّ بواجبها وتنكر ذاتها. بيد أن هذا الرفض للغرب يبقى، على ما يرى الكاتب، «هشًّا أمام قوة النموذج النيوليبرالي المعولَم الذي يهيمن عليه الغرب».
وينكب بونيت في الفصل السادس على ما لحق فكرة الغرب من تضييق مع أفول الديمقراطية الاجتماعية وبروز النيوليبرالية بوصفها برنامج عمل لباقي العالم، مع أنّها في رأي بونيت تفكير طوباوي وأيديولوجيا.
وفي الفصل السابع والأخير، يصرف الكاتب اهتمامه إلى ما تطور لدى الإسلام السياسي المتطرف من يوتوبيا هي مقلوب الغرب وصورته المعكوسة. وهنا، يناقش الكاتب أعمال اثنين من المفكرين مختلفين أشدّ الاختلاف، هما الناقد الثقافي اليساري جلال آل أحمد، والإسلاميّة مريم جميلة.