في رواية «مشكلة سبينوزا» لإرفين د. يالوم، نقرأ على ما يلي: «التفت هتلر إلى ألفريد، وقال: «آه باعتبارك صحفيا، أرجو أن توافقني الرأي بأن الحقيقة هي كل ما يصدقه عامة الناس….»..». لا تهم الحقيقة «الواقعية» ما دامت الحقيقة تعتمد على نحو كلي على الأداء الإعلامي، لأن هذا هو ما يؤثر بالفعل في تكوين الصورة العامة للقوة المهيمنة. ولهذا يستثمر الغرب ثروة هائلة لبناء قوته الإعلامية وإنشاء وسائل إعلامية تحقق أهداف سياساتها الخارجية وتؤثر في اتجاهات الجماهير في دول العالم.
طرح إيمانويل كانط لها وجون جاك روسو، بشكل واضح فكرة «الواجب الأخلاقي»، ووضعوا عليها كل ثقلهم الفكري، مستندين في ذلك إلى التاريخ، مما يؤكد أنّ النظريات الأخلاقية لا تنشأ صدفة ومن دون مقدماتها التاريخية. فمعظم الدراسات الفلسفية الغربية، وخاصة الأخلاقية منها، وإن كان ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحضارة اليونانية التي تشكل ركيزتها الأساسية، فإنها، يقول الباحث فادي ناصر في مقال له بعنوان «علم فلسفة الأخلاق»، ممتنّة إلى إسهامات الحضارات الشرقية القديمة التي كانت بمثابة البذرة التي نبتت وتفرّعت منها المسارات الفكرية على اختلاف مشاربها. وهذا ما أكّده هيغل بنفسه عندما قال إنّه: «في آسيا استرق ضوء الرّوح ومن ثم بدأ التاريخ الكلي». كما يؤكّد أيضًا «ويل ديوارنت» في كتابه الشهير «قصّة الحضارة» على هذه الفكرة بقوله إنّ الفكر والفلسفة والأخلاق لم يكن مهدها يونانيًا بل «إنّه بدأ بآسيا، ليس لأنّ آسيا كانت مسرحًا لأقدم مدينة معروفة وحسب، ولكن لأنّ تلك المدنيات كوّنت البطانة وأساسات للحضارة اليونانية والرومانية التي ظنّ خطأً السير هنري مين أنّها المصدر الوحيد الذي استقى منه العصر الحديث. وسوف يُدهشنا كم مخترعًا من ضروريات حياتنا وكم من نظامنا الاقتصادي والسياسي وكم مما لدينا من علوم وآداب ومن فلسفة ودين يرتد إلى مصر والشرق».
ويذهب جورج جيمس صاحب كتاب «التراث المسروق»، حسب فادي ناصر، أبعد من ذلك، ليتحدّث بشكل صريح وواضح عن سرقةٍ ممنهجةٍ وبشكلٍ علنيٍّ للفكر والمعرفة، معتبرًا أنّ الفلسفة اليونانية ما هي إلا فلسفة مصريّة مسروقة، ويستدلّ على نظريّته بأدلّة وشواهد من المفيد الاطّلاع عليها. والسبب في هذا الظلم الذي لحق لناحية الاعتراف بهذا التعاضد التاريخي المعرفي على مستوى العلوم، هو قلّة الوثائق التي وصلتنا عن الحضارات الشرقية القديمة من جهة، وتألّق الحضارة اليونانيّة على مستوى التدوين والبحث من جهة ثانية، ونشوء المدارس والكليات المختلفة التي انتشرت في ذلك العصر، ما أعطى استنتاجًا غير منطقي جعل يؤرّخ أنّ التفكير الفلسفي بدأ مع الحضارة اليونانية، وأنّ إليها يرجع أصل كلّ تنظير أخلاقي. وهذا بحاجة إلى إعادة نظر وتدقيق وتمحيص أكثر من تاريخانية المعرفة الإنسانية على مستوى الأصول والمنطلقات والأسس.
وعليه، يقول فادي ناصر، يمكن أن نقول بكلّ ثقة إنّ تاريخ التفكير الفلسفي، خصوصًا الأخلاقي منه، لم يكن يوناني المنشأ، ولا يمكن أن نحدّده بزمان ومكان محدّدين، ولا أن نحصره بعرق ما أو جنس خاص، إنّما هو حاجة كلّ الشعوب البشرية، لكون التفكير الفلسفي منسجم مع تكوين الإنسان العاقل والمفكّر من ناحية، وميله الباطني لاكتشاف المجهول ومعرفة الواقع المحيط به من ناحية ثانية، وحاجته على مستوى الاجتماعي إلى قواعد علميّة تنظّم له حياته الجماعية وقدرته على التواصل مع الآخرين من أجل تأمين احتياجاته المختلفة من ناحية ثالثة. وعليه فإنّ «التاريخ الصحيح للوعي الفلسفي يبدأ مع ظهور الكائن البشري العاقل على الأرض؛ لأنّ هذا الكائن منذ تجربته الأولى في الحياة واستثماره الطبيعة ما انفكّ يثير السؤال تلو السؤال عن مبدئه ومصيره وحقيقته وحقيقة العالم المحيط به»، ومن هذه الحقائق التي شغلت الفكر الإنساني على مرّ العصور هي الأخلاق لارتباطها والوثيق والمباشر بسلوك الإنسان، وانعكاساته الواضحة على السلام الاجتماعي والعام، والإنساني الفردي الخاص. إذا لا سلام اجتماعي ولا فردي من دون الأخلاق. وهذا الأمر يدركه أي إنسان بالبداهة والوجدان ولا يحتاج إلى كثير تأمّل وبرهان.